واشتكت النار إلى ربها فقالت: رب! أكل بعضي بعضا. فأذن لها بنفسين: نفس في الشتاء ونفس في الصيف، أشد ما تجدون من الحر، وأشد ما تجدون من الزمهرير)) .
ــ
فلا يشرع الإبراد في البلاد الباردة. واختلفوا في حد الإبراد ولم يرد في تحديده إلا ما تقدم من حديث ابن مسعود: كان قدر صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الظهر في الصيف، الخ. وما روى من حديث أبي ذر عند الشيخين فإن فيه: فقال له: أبرد حتى رأينا فئ التلول - الحديث. فهذه الغاية متعلقة بأبرد أي: قال له: أبرد إلى أن ترى، أو متعلقة بمقدر أي: قال له: أبرد فأبرد إلى أن رأينا، والفيء هو ما بعد الزوال من الظل، ومعنى الحديث أنه أخر تأخيراً كثيرا حتى صار للتلول فيء، وهي في الغالب منبطحة غير شاخصة لا يصير لها فئ في العادة إلا بعد زوال الشمس بكثير فيستنبط منه حد الإبراد وهو أن يؤخر بحيث يصير للجدر ظلال يمشون فيها، والله أعلم (واشتكت) جملة مبنية للأولى وإن دخلت الواو بين المبين والمبين كما في قوله تعالى: {وإن من الحجارة لما يتفجر}[٧٤:٢](النار إلى ربها) شكاية حقيقية بلسان المقال بحياة وإدراك خلقهما الله تعالى فيها، وقيل: مجازية عرفية بلسان الحال. قال ابن عبد البر: لكلا القولين وجه ونظائر والأول أرجح، وقال عياض: إنه الأظهر، والله قادر على خلق الحياة بجزء منها حتى تكلم أو يخلق لها كلاما يسمعه من شاء من خلقه. وقال القرطبي: لا إحالة في حمل اللفظ على حقيقيته، وإذ أخبر الصادق بأمر جائز لم يحتج إلى تأويله، فحمله على حقيقته أولى. وقال النووي نحو ذلك، ثم قال: حمله على حقيقته هو الصواب، وقال: نحو ذلك التور بشتي، ورجح البيضاوي حمله على المجاز فقال: شكواها مجاز عن غليانها، وأكلها بعضها بعضاً مجاز عن ازدحام أجزاءها بحيث يضيق مكانها عنها فيسعى كل جزء في إفناء الجزء الآخر والاستيلاء على مكانه، وتنفسها مجاز عن لهبها وخروج ما يبرز منها. وقال الزين بن المنير: المختار حمله على الحقيقة لصلاحية القدرة لذلك، ولأن استعارة الكلام للحال وإن عهدت وسمعت لكن الشكوى وتفسيرها والتعليل له والإذن، والقبول، والتنفس، وقصره على اثنين فقط. بعيد من المجاز خارج عما ألف من استعماله (فأذن لها بنفسين) تثنية نفس وهو ما يخرج من الجوف ويدخل فيه من الهواء (نفس) بالجر على البدل أو البيان، ويجوز الرفع بتقدير أحدهما (أشد ما تجدون من الحر) برفع أشد على أنه خبر مبتدأ محذوف، أي: ذلك أشد ما تجدون، أو مبتدأ خبر محذوف أي: أشد ما تجدون من الحر من ذلك النفس، ويجوز الجر على البدل من النفس المجرور، والنصب بتقدير أعنى، وعلى كل تقدير فما إما موصولة أو موصوفة، ومن الحر ومن الزمهرير بيان (وأشد ما تجدون من الزمهرير) أي: شدة البرد ولا مانع من حصول الزمهرير من نفس النار لأن المراد بالنار محلها، وهو جهنم وفيها طبقة زمهريرية. والحديث يدل على استحباب الإبراد، ولا يعارض ذلك الأحاديث الواردة بتعجيل الظهر وأفضلية أول الوقت لأنها عامة أو مطلقة، وحديث الإبراد خاص أو مقيد، ولا تعارض بين عام وخاص ولا بين مطلق ومقيد، وأما حديث خباب عند مسلم، قال: شكونا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حر الرمضاء في جباهنا وأكفنا