البيعة لا تلزمه، وإنَّما انتهت البيعة التي في عُنقهِ بموت معاوية بن أبي سفيان -رضي الله عنهما-، وأما بيعة ما بعدَه، فلم يرَها مُلزِمةً له، ولما رأى أنَّ عنده قدرةً وقوةً خرج على يزيد لما علِمَ من فسقهِ، وليس في عنقه بيعةٌ له تمنعهُ من الخروج؛ فهو لم يخرج على حاكمٍ بايعَهُ، فلا يُستفاد منه أنَّ مذهبه جوازُ نقضِ البيعة والخروج على حاكمهِ لفسقهِ؛ فخطؤه -رضي الله عنه- في عدمِ المبايعة ليزيد، وليزيدَ شوكةٌ وقوة، ثم في ظنِّه أن عنده قدرة وليس الأمر كذلك.
قال ابن خلدون في تاريخه: «وأمّا الحسين فإنّه لمّا ظهرَ فسقُ يزيد عند الكافَّة من أهل عصره بعثتْ شيعةُ أهل البيت بالكوفة للحسين أن يأتيَهُم فيقوموا بأمره، فرأى الحسينُ أنّ الخروج على يزيد متعيّن من أجل فسقهِ لا سيّما مَنْ له القدرة على ذلك؛ وظنَّها من نفسه بأهليّته وشوكته، فأمّا الأهليّة فكانت كما ظنَّ وزيادة، وأمَّا الشّوكة فغلط -رحمه الله- فيها؛ لأنّ عصبيّة مضر كانت في قريش، وعصبيّة عبد مناف إنّما كانت في بني أميّة؛ تعرف ذلك لهم قريش وسائرُ النّاس ولا ينكرونه، وإنَّما نسي ذلك أوَّلَ الإسلام لما شغلَ النّاسَ من الذّهولِ بالخوارق وأمرِ الوحي وتردّد الملائكة لنصرة المسلمين، فأغفَلوا أمورَ عوائدِهم، وذهبت عصبيّة الجاهليّة ومنازعها، ونسيت ولم يبق إلَّا العصبيّة الطّبيعيّة في الحماية والدّفاع يُنتفع بها في إقامة الدّين وجهاد المشركين، والدّين فيها محكَّم والعادة معزولة حتّى إذا انقطع أمرُ النّبوة والخوارق المهولة، تراجعَ الحكمُ بعضَ الشّيء للعوائد، فعادت العصبيّة كما كانت ولمن كانت، وأصبحت مضرُ أطوعَ لبني أميّة من سواهم بما كان لهم من ذلك قبل، فقد تبيَّن لكَ غلطُ الحسين إلَّا أنّه في أمرٍ دنيويٍّ لا يضرُّه الغلط فيه، وأمّا الحكمُ الشّرعيُّ فلم يغلط فيه؛ لأنّه منوطٌ بظنِّه، وكان