طلبا للعافية، وإيثارا للسلامة. ثم ذهب إلى القاهرة، واتصل بالملوك الأيوبيين، فأنزلوه منزلة كريمة، وولوه أعمالا بالصعيد ثم بلبيس وبيت المقدس، وناب عن القاضى الفاضل بحضرة صلاح الدين. ولما ملك العادل الشام لم تطب للقاضى الأشرف الإقامة ببيت المقدس، وغادرها إلى حرّان. وهناك استوزره الملك الأشرف موسى بن العادل، ثم استأذنه فى الحج فأذن له على أن يعود؛ ولكنه امتنع من العود، وذهب إلى اليمن، فاستوزره أتابك سنقر، وأقام فى الوزارة زمنا؛ ثم بدا له أن ينقطع عن خدمة الملوك، فذهب إلى ذى جبلة «١»، وآثر العزلة عن الناس، والإخلاد إلى الوحدة. فأقام بها منفردا بنفسه، بعيدا عن الخاصة والعامّة إلى أن توفى سنة ٦٢٤.
وكانت القاهرة حين وفد القفطىّ إليها معمورة بالمدارس، مأهولة بالعلماء، زاخرة بالكتب، فأخلى ذرعه للدرس، وقصر نفسه على العلم، وأحاط منه بقدر صالح كبير. ولقى كثيرا من العلماء وأخذ عنهم؛ وكان ممن لقيه محمد بن محمد بن بنان الأنبارىّ، وكان شيخا فاضلا عالما، تصدّر للإقراء، فلزمه وأخذ عنه سماعاته، وأجازه فى رواياته، وسمع منه كتاب الصّحاح للجوهرىّ.
وترامت إليه أخبار أبى طاهر السّلفىّ نزيل الإسكندرية وعالمها فى ذلك الحين، فارتحل إليه، وانتظم فى حلقة الطلاب الذين وفدوا عليه من أطراف البلاد، وكان صغيرا فى ذلك الحين؛ إلا أنه أفاد منه، وتحدّث عنه فى كتاب الإنباه.
ثم عاوده الحنين إلى وطنه، واشتاق إلى ملاعب طفولته، ومنبت أهله وعشيرته، فسافر إلى قفط، وكان قد اكتمل عقله، وأوفى على الغاية استعداده.
وهناك خالط علماءها، وناظر أدباءها، والتقى بصالح بن عادى العذرىّ نزيلها.