للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

عليه، طلب وسؤال من اللَّه أن يصلي عليه، فلا يمكن فيها إلا لفظ الغيبة؛ إذ لا يقال: اللهم صل عليك.

وأما السلام عليه، فأتى بلفظ الحاضر المخاطب، تنزيلًا له منزلة المواجه؛ لحكمة بديعة جدًا، وهي: أنه -صلى اللَّه عليه وسلم- لما كان أحب إلى المؤمن من نفسه التي بين جنبيه، وأولى به منها وأقرب، وكانت حقيقته الذهنية، ومثاله العلمي موجودًا في الذهن؛ بحيث لا يغيب عنه إلا شخصه؛ كما قيل (١): [من الطويل]

خَيالُكَ في عيني وذِكْرُك في فَمي ... ومثواكَ في قلبي فأينَ تَغيبُ؟!

ومن كان بهذه الحال، فهو الحاضر حقًا، وغيره، وإن كان حاضرًا للعيان، فهو غائب عن الجنان، فكان خطابه خطاب المواجهة والحضور بالسلام عليه أولى من سلام الغيبة؛ تنزيلًا له منزلة المواجه المعاين؛ لقربه من القلب، وحلوله في جميع أجزائه، بحيث لا يبقى في القلب جزء، إلا ومحبته وذكره فيه، ولا ينكر استيلاء المحبوب على قلب المحب، وغلبته عليه، حتى كأنه يراه.

ولهذا تجدهم في خطابهم لمحبوبهم، إنما يعتمدون خطاب الحضور والمشاهدة، مع غاية البعد العياني؛ لكمال القلب الروحي، فلم يمنعهم بُعْد الأشباح عن محادثة الأرواح ومخاطبتها، وأما من كثفت طباعه، فهو هذا كله بمعزل.

وإنه ليبلغ الحب ببعض أهله أن يرى محبوبه في القرب إليه بمنزلة روحه التي لا شيء أدنى إليه منها، كما قيل: [من الخفيف]

يا مُقيمًا مَدَى الزمانِ بقلبي ... وبعيدًا عن ناظِري وعِياني


(١) منسوب إلى أبي بكر الشبلي، كما في "ديوانه" (ص: ١٥٩)، قال جامع الديوان ومحققه الدكتور كامل الشيبي: وهو مما تمثّل به الشبلي، وليس له.

<<  <  ج: ص:  >  >>