للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ثم قال رسول الله : قوله تعالى: ﴿وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ﴾ [الإسراء: ١٣] أي: عمله، فإذا فرغ من ذلك دخل عليه فتّانا القبر، وهما ملكان أسودان، يخرقان الأرض بأنيابهما، لهما شعور مسدولة يجرانها على الأرض، كلامهما كالرعد القاصف، وأعينهما كالبرق الخاطف، ونفسهما كالريح العاصف، بيد كل واحد منهما مقمع من حديد لو اجتمع عليه الثقلان ما رفعاه، لو ضرب به أعظم جبل لجعله دكّا، فإذا أبصرتهما النفس ارتعدت، وولّت هاربة، فتدخل في منخر الميت فيحيا الميت من الصدر ويكون كهيئته عند الغرغرة، ولا يقدر على حراك، غير أنه يسمع وينظر قال: «فيقعدانه فيبتدئانه بعنف، وينتهرانه بجفاء وقد صار التراب له كالماء، حيثما تحرك انفسح فيه ووجد فرجة فيقولان له: من ربّك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟ وما قبلتك؟ فمن وفقه الله وثبته بالقول الثابت قال: ومن وكّلكما عليّ؟ ومن أرسلكما إليّ؟ وهذا لا يقوله إلا العلماء الأخيار. فيقول أحدهما للآخر: صدق. كفي شرّنا، ثم يضربان عليه القبر كالقبة العظيمة، ويفتحان له بابا إلى الجنة من تلقاء يمينه، ثم يفرشان له من حريرها وريحانها، ويدخل عليه من نسيمها وروحها وريحانها، ويأتيه عمله في صورة أحب الأشخاص إليه، يؤنسه ويحدثه ويملأ قبره نورا، ولا يزال في فرح وسرور ما بقيت الدنيا حتى تقوم الساعة، ويسأل: متى تقوم الساعة؟ فليس شيء أحب إليه من قيامها.

ودونه في المنزلة المؤمن العامل الخير ليس معه حظّ من العلم، ولا من أسرار الملكوت، يلج عليه عمله عقيب رومان في أحسن صورة طيب الريح، حسن الثياب، فيقول له: أما تعرفني؟ فيقول: من أنت الذي منّ الله علي بك في غربتي؟ فيقول: أنا عملك الصالح، فلا تحزن ولا توجل؛ فعمّا قليل يلج عليك منكر ونكير يسألانك فلا تدهش، ثم يلقنه حجته، فبينما هو كذلك، إذ دخلا عليه فينتهرانه ويقعدانه مستندا ويقولان: من ربك؟ - نسق الأول - فيقول: الله ربي، ومحمد نبيي، والقرآن إمامي، والكعبة قبلتي، وإبراهيم أبي، وملته ملتي، غير مستعجم، فيقولان له: صدقت، ويفعلان به كالأول، إلاّ أنهما يفتحان له بابا إلى النار فينظر إلى حيّاتها وعقاربها وسلاسلها وأغلالها وحميمها وجميع غمومها وصديدها وزقومها، فيفزع فيقولان له: لا عليك سوء، هذا موضعك قد أبدله الله تعالى بموضعك هذا في الجنة، نم سعيدا، ثم يغلقان عنه باب النار، ولم يدر ما مر عليه من الشهور والأعوام والدهور. ومن الناس من يحجم في مسألته، فإن كانت عقيدته مختلفة امتنع أن يقول: الله ربي وأخذ غيرها من الألفاظ فيضربانه ضربة يشتعل منها قبره نارا ثم تطفأ عنه أياما، ثم تشتعل عليه أيضا. هذا دأبه ما بقيت الدنيا. ومن الناس من يعتاص عليه ويعسر أن يقول: الإسلام ديني لشك كان يتوهمه، أو فتنة تقع به عند الموت فيضربانه ضربة واحدة فيشتعل عليه قبره نارا كالأول، ومن الناس من يعتاص عليه أن يقول: القرآن إمامي؛ لأنه كان يتلوه ولا يتعظ به، ولا

<<  <  ج: ص:  >  >>