للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وزهّده فيما كان منها يؤمل، ولكن النفوس الراكدة، والقلوب الغافلة تحتاج إلى تطويل الوعّاظ، وتزويق الألفاظ، وإلا ففي قوله : «أكثروا ذكر هاذم اللذات» مع قوله تعالى: ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ﴾ [آل عمران: ١٨٥] ما يكفي السامع له، ويشغل الناظر فيه. وكان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب كثيرا ما يتمثّل بهذه الأبيات:

لا شيء مما ترى تبقى بشاشته … يبقى الإله ويؤدي المال والولد

لم تغن عن هرمز يوما خزائنه … والخلد قد حاولت عاد فما خلدوا

ولا سليمان إذ تجري الرياح له … والإنس والجن فيما بينها ترد

أين الملوك التي كانت لعزّتها … من كلّ أوب إليها وافد يفد؟

حوض هنالك مورود بلا كذب … لا بدّ من ورده يوما كما وردوا

[فصل]

إذا ثبت ما ذكرناه؛ فاعلم أن ذكر الموت يورث استشعار الانزعاج عن هذه الدار الفانية، والتوجّه في كل لحظة إلى الدار الآخرة الباقية؛ ثم إن الإنسان لا ينفك عن حالتي ضيق وسعة، ونعمة ومحنة، فإن كان في حال ضيق ومحنة، فذكر الموت يسهل عليه بعض ما هو فيه، فإنه لا يدوم، والموت أصعب منه، أو في حال نعمة وسعة فذكر الموت يمنعه من الاغترار بها، والسكون إليها، لقطعه عنها. ولقد أحسن من قال:

اذكر الموت هاذم اللذات … وتجهّز لمصرع سوف يأتي

وقال غيره:

واذكر الموت تجد راحة … في ادكار الموت تقصير الأمل

وأجمعت الأمة على أن الموت ليس له سن معلومة، ولا زمن معلوم، ولا مرض معلوم. وذلك ليكون المرء على أهبة من ذلك، مستعدّا لذلك.

وكان بعض الصالحين ينادي بليل على سور المدينة: الرحيل، الرحيل. فلما توفّي فقد صوته أمير المدينة فسأل عنه، فقيل: إنه قد مات، فقال:

ما زال يلهج بالرحيل وذكره … حتى أناخ ببابه الجمّال

فأصابه متيقظا متشمرا … ذا أهبة لم تلهه الآمال

وكان يزيد الرّقاشي يقول لنفسه: ويحك يا يزيد، من ذا يصلي عنك بعد الموت؟ من ذا يصوم عنك بعد الموت؟ من ذا يترضّى عنك ربك بعد الموت؟ ثم يقول: أيها الناس ألا تبكون وتنوحون على أنفسكم باقي حياتكم؟ من الموت موعده، والقبر بيته، والتراب فراشه، والدود أنيسه، وهو مع هذا ينتظر الفزع

<<  <  ج: ص:  >  >>