الثانية: ربما خطر لبعض الناس أن هؤلاء أحباب الله، وأنبياؤه ورسله، فكيف يقاسون هذه الشدائد العظيمة وهو سبحانه قادر أن يخفف عنهم أجمعين؟ كما قال في قصة إبراهيم:«أما إنا قد هوّنا عليك». فالجواب:«أن أشد الناس بلاء في الدنيا الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل» كما قال نبينا ﵇، خرّجه البخاري وغيره (١). فأحبّ الله أن يبتليهم تكميلا لفضائلهم لديه، ورفعة لدرجاتهم عنده، وليس ذلك في حقهم نقصا، ولا عذابا. بل هو كما قال كمال رفعة، مع رضاهم بجميل ما يجري الله عليهم، فأراد الحق سبحانه أن يختم لهم بهذه الشدائد، مع إمكان التخفيف والتهوين عليهم، ليرفع منازلهم، ويعظم أجورهم قبل موتهم.
كما ابتلي إبراهيم بالنار، وموسى بالخوف والأسفار، وعيسى بالصحاري والقفار، ونبينا محمدا ﷺ بالفقر في الدنيا ومقاتلة الكفار، كل ذلك لرفعة في أحوالهم، وكمال في درجاتهم. ولا يفهم من هذا أن الله شدّد عليهم أكثر مما شدد على العصاة المخطئين فإن ذلك عقوبة لهم، ومؤاخذة على إجرامهم فلا نسبة بينه وبين هذا.
[فصل]
إن قال قائل: كل المخلوقات تجد هذه السكرات؟ قيل له: قال بعض العلماء: قد وجب بحكم القول الصدق، والكلمة الحق، أن الكأس مر المذاق، وإن قد ذيق ويذاق، ولكن ثمّ فريقان، وتقديرات وأوزان، وإن الله ﷾ لما انفرد بالبقاء وحده لا شريك له، وأجرى سنة الهلاك والفناء على الخلق دونه، خالف في ذلك ﷻ بين المخلوقات، وفرّق بين المحسوسات، بحسب ما خالف بين المنازل والدرجات، فنوع أرضي حيواني، إنساني وغير إنساني، وفوقه عالم روحاني، وملأ علواني رضواني، كلّ يشرب من ذلك الكأس جرعته، ويغتص منه غصته. قال الله تعالى: ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ﴾ [آل عمران: ١٨٥] قال أبو حامد في كتاب «كشف علوم الآخرة»: وثبت ذلك في ثلاثة مواضع من كتابه، وإنما أراد سبحانه بالموتات الثلاث للعالمين: فالمتحيز إلى العالم الدنيوي يموت، والمتحيز إلى العالم الملكوتي يموت، والمتحيز إلى العالم الجبروتي يموت. فالأول آدم وذريته وجميع الحيوان على ضروبه، والملكوتي وهو الثاني
(١) لم يخرجه البخاري؛ إنما أخرجه أحمد (١/ ١٧٤) والترمذي (٢٣٩٩) وابن ماجه (٢٠٢٤) والحاكم (٣/ ٢٤٣) وغيرهم، وهو صحيح، انظر «سلسلة الأحاديث الصحيحة» رقم (١٤٣).