من تلقاء وجهه في زيارته كمخاطبته حيّا، ولو خاطبه حيّا لكان الأدب استقباله بوجهه، فكذلك هاهنا. ثم يعتبر بمن صار تحت التراب، وانقطع عن الأهل والأحباب، بعد أن قاد الجيوش والعساكر، ونافس الأصحاب والعشائر، وجمع الأموال والذخائر، فجاءه الموت في وقت لم يحتسبه، وهول لم يرتقبه، فليتأمل الزائر حال من مضى من إخوانه، ودرج من أقرانه، الذين بلغوا الآمال وجمعوا الأموال، كيف انقطعت آمالهم، ولم تغن عنهم أموالهم، ومحا التراب محاسن وجوههم، وافترقت في القبور أجزاؤهم، وترمّل بعدهم نساؤهم، وشمل ذل اليتم أولادهم، واقتسم غيرهم طريقهم وبلادهم.
وليتذكر ترددهم في المآرب، وحرصهم على نيل المطالب، وانخداعهم لمؤاتاة الأسباب، وركونهم إلى الصحة والشباب، وليعلم أن ميله إلى اللهو واللعب كميلهم، وغفلته عما بين يديه من الموت الفظيع والهلاك السريع كغفلتهم، وأنه لا بدّ صائر إلى مصيرهم، وليحضر بقلبه ذكر من كان مترددا في أغراضه، وكيف تهدمت رجلاه، وكان يتلذذ بالنظر إلى ما حوله وقد سالت عيناه، ويصول ببلاغة نطقه، وقد أكل الدود لسانه، ويضحك لمؤاتاة دهره وقد أبل التراب أسنانه، وليتحقق أن حاله كحاله، ومآله كمآله. وعند هذا التذكّر والاعتبار، يزول عنه جميع الأغيار الدنيوية، ويقبل على الأعمال الأخروية، فيزهد في دنياه، ويقبل على طاعة مولاه، ويلين قلبه، وتخشع جوارحه، والله أعلم.
[فصل]
جاء في هذا الباب حديث يعارض حديث هذا الباب؛ وهو ما خرّجه أبو بكر أحمد بن علي الخطيب في كتاب «السابق واللاحق» وأبو حفص عمر بن شاهين في «الناسخ والمنسوخ» له في الحديث بإسناديهما عن عائشة ﵂ قالت: حج بنا رسول الله ﷺ حجّة الوداع فمر بي على عقبة الحجون، وهو باك حزين مغتمّ، فبكيت لبكائه ﷺ، ثم إنه طفر - أي وثب - فنزل فقال:
«يا حميراء استمسكي» فاستندت إلى جنب البعير، فمكث عني طويلا مليا، ثم إنه عاد إليّ، وهو فرح متبسم، فقلت له: بأبي أنت وأمي يا رسول الله؛ نزلت من عندي وأنت باك حزين مغتمّ، فبكيت لبكائك يا رسول الله، ثم إنك عدت إليّ وأنت فرح متبسم، فعن ماذا يا رسول الله؟ فقال: «مررت بقبر أمي آمنة، فسألت الله ربي أن يحييها فأحياها فآمنت بي - أو قال - فآمنت وردّها الله عزّ