قديم (١)، والقديم لا يمكن أن يفنى، وما عداه محدث، والمحدث إنما يبقى قدر ما يبقيه محدثه، فإذا حبس البقاء عنه فني. ولم يبلغنا في خبر صحيح ولا معلول أنه يهلك العرش، فلتكن الجنة مثله».
[فصل]
قوله ﷺ في الحديث:«ومن قال أنا خير من يونس بن متّى فقد كذب».
للعلماء فيه تأويلات؛ أحسنها وأجملها ما ذكره القاضي أبو بكر بن العربي قال:
أخبرني غير واحد من أصحابنا عن إمام الحرمين أبي المعالي عبد الملك بن عبد الله بن يوسف الجويني أنه سئل: هل الباري في جهة؟ فقال: لا هو متعال عن ذلك، قيل له: ما الدليل عليه؟ قال الدليل عليه قول النبي ﷺ:«لا تفضلوني على يونس بن متى» فقيل له: ما وجه الدليل من هذا الخبر؟ فقال: لا أقوله حتى يأخذ ضيفي هذا ألف دينار يقضي بها دينا، فقام رجلان فقالا: هي علينا. فقال: لا يتبع بها اثنين لأنه يشق عليه. فقال واحد: هي عليّ. فقال: إن يونس بن متى رمى بنفسه في البحر فالتقمه الحوت، وصار في قعر البحر في ظلمات ثلاث ونادى ﴿لا إِلهَ إِلاّ أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظّالِمِينَ﴾ [الأنبياء: ٨٧] كما أخبر الله، ولم يكن محمد ﷺ حين جلس على الرفرف الأخضر وارتقى به صعدا حتى انتهى به إلى موضع يسمع فيه صريف الأقلام، وناجاه ربه بما ناجاه به، وأوحى إليه ما أوحى بأقرب إلى الله من يونس في ظلمة البحر.
قال المؤلف: فالله سبحانه قريب من عباده يسمع دعاءهم، ولا يخفى عليه حالهم، كيف ما تصرفت من غير مسافة بينه وبينهم، فيسمع ويرى دبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء، في الليلة الظلماء، تحت الأرض السفلى، كما يسمع ويرى تسبيح حملة عرشه من فوق السبع السموات العلى، سبحانه لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة، أحاط بكل شيء علما، وأحصى كل شيء عددا. ولقد أحسن أبو العلاء بن سليمان المغربي حيث يقول:
يا من يرى مدّ البعوض جناحها … في ظلمة الليل البهيم الأليل
ويرى مناط عروقها في لحمها … والمخّ في تلك العظام النّحل
آجالها محتومة، أرزاقها … مقسومة بعطاء وإن لم تسأل
(١) انظر تعليق ابن أبي العز الحنفي على هذا اللفظ في «شرحه للعقيدة الطحاوية» ص ١١٢ - ١١٣. ط. المكتب الإسلامي، وتعليق الشيخ ابن باز ﵀ على حاشية العلامة ابن مانع ص ١٥، و «معجم المناهي اللفظية» للشيخ بكر أبو زيد ص ٤٣٦ - ٤٣٧.