على دفع الظلم فداهنت الظالم وما راعيتني، فبينما أنت كذلك وقد أنشب الخصماء فيك مخاليبهم، وأحكموا في تلابيبك أيديهم، وأنت مبهوت متحيّر من كثرتهم، حتى لم يبق في عمرك أحد عاملته على درهم أو جالسته في مجلس إلا وقد استحق عليك مظلمة، بغيبة أو جناية، أو نظر بعين استحقار، وقد ضعفت عن مقاومتهم ومددت عنق الرجاء إلى سيدك ومولاك، لعله يخلصك من أيديهم، إذ قرع سمعك نداء الجبار:
﴿الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ﴾ [غافر: ١٧] فعند ذلك ينخلع قلبك من الهيبة، وتوقن نفسك بالبوار، وتتذكر ما أنذرك الله به على لسان رسوله ﷺ حيث قال: ﴿وَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ غافِلاً عَمّا يَعْمَلُ الظّالِمُونَ﴾ إلى قوله: ﴿لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ﴾ [إبراهيم: ٤٢، ٤٣].
فما أشد فرحك اليوم بتضمضمك بأعراض الناس، وتناولك أموالهم، وما أشد حسرتك في ذلك اليوم إذا وقف بك على بساط العدل وشوفهت بخطاب السيئات، وأنت مفلس فقير، عاجز مهين، لا تقدر على أن ترد حقا أو تظهر عذرا، فعند ذلك تؤخذ حسناتك التي تعبت فيها عمرك، وتنقل إلى أخصامك عوضا عن حقوقهم، كما ورد في الأحاديث المذكورة في هذا الباب.
فانظر إلى مصيبتك في مثل هذا اليوم إذ ليس لك حسنة قد سلمت من آفات الرياء ومكايد الشيطان، فإن سلمت حسنة واحدة في مدة طويلة، ابتدرها خصماؤك وأخذوها. ويقال: لو أن رجلا له ثواب سبعين نبيّا وله خصم بنصف دانق، لم يدخل الجنة حتى يرضى عنه خصمه. وقيل: يؤخذ بدانق قسط سبعمائة صلاة مقبولة، فتعطى للخصم. ذكره القشيري في «التحبير» له عند اسمه المقسط الجامع.
قال أبو حامد: ولعلك لو حاسبت نفسك وأنت مواظب على صيام النهار وقيام الليل، لعلمت أنه لا يمضي عليك يوم إلا ويجري على لسانك من غيبة المسلمين ما يستوفي جميع حسناتك، فكيف ببقية السيئات من أكل الحرام، والشهوات، والتقصير في الطاعات؟ وكيف ترجو الخلاص من المظالم في يوم يقتص فيه للجماء من القرناء؟ ﴿وَيَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً﴾ [النبأ: ٤٠] فكيف بك يا مسكين في يوم ترى فيه صحيفتك خالية من حسنات طال فيها تعبك؟ فتقول: أين حسناتي؟ فيقال: نقلت إلى صحيفة خصمائك. وترى صحيفتك مشحونة بسيئات غيرك، فتقول: يا رب هذه سيئات ما قارفتها قط! فيقال: هذه سيئات الذين اغتبتهم وشتمتهم وقصدتهم بالسوء، وظلمتهم في المعاملة والمبايعة والمجاورة والمخاطبة