{يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (٥٧)} [يونس: ٥٧]. ومنها:
{قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى} [فصلت: ٤٤].
وأفادت الآيات كلها أنه شفاء لأهل الإيمان الذين يؤمنون دون غيرهم، فإنهم بإعراضهم عنه كانوا من الخاسرين.
وجاءت آية يونس بتقييد الشفاء بها في الصدور الذي هو مستقر العقائد، لأن ذلك هو المقصود الأول من هداية القرآن، وأصل لغيره، فإنه إذا شفيت الصدور من عقائد السوء، ونزعات الشكوك، واعتقدت الحق، وارتبطت على اليقين؛ زكت النفوس واستقام سلوك الإنسان فرده وجماعاته، ورقي درجات الكمال.
فلا ينافي ذلك أن القرآن شفاء أيضاً للنفوس من سىّء الأخلاق كما هو مقتضى الإطلاق في آية الإسراء هذه، وآية السجدة، لأن الأخلاق ناشئة عن العقائد ولازمة لها، ولأنهما كليهما لا تكمل النفس الإنسانية إلاّ بالشفاء فيهما. ولا ينافي أيضاً حصول الشفاء للأبدان بالقرآن في بعض الأحوال كما هو مقتضى الإطلاق أيضاً، ومقتضى ما سيأتي من الآثارة وإن كان هذا ليس هو المقصود بالقصد الأول من شفاء القرآن.
[تقسيم]
[الأمراض الإنسانية قسمان]
أمراض أرواح وأمراض أبدان، وكلاهما أنواع.
وأمراض الأرواح المقصودة بالذات هنا ترجع إلى نوعين:
الأول مرض العقول: بجمود النظر، وفساد الإدراك، وتقليد الآباء، واعتقاد الباطل، والشك في الحق.
والثاني مرض النفوس: بفساد الأخلاق، وانحطاط الصفات. أما الأعمال فهي تابعة لهما فتصلح بصلاحهما وتفسد بفسادهما.
والقرآن قد جاء داعياً إلى النظر، والتفكر، والاعتبار، والتدبير، مبيناً بما ساق من حجج رسله الطريق الأقوم في الإدراك الصحيح، والسبيل الأسدَّ في الفهم والتفهيم، ناعيا على المقلدين تقليدهم، كاشفاً لأهل الباطل عن باطلهم، ذاكراً من قواطع البراهين البينة الواضحة، ما لا يبقى معه خفاء في الحق ولاريب.
وجاء أيضاً مبيناً للأخلاق الفاسدة، وذاكراً سوء أثرها وقبح مغبتها، مبيناً كذلك الأخلاق الصحيحة وعظيم نفعها، وحسن عاقبتها. فهذا شفاؤه للنفوس والعقول، وهو راجع إلى تصحيح العقائد وتقويم الأخلاق وبهما سلامة الأرواح وكمالها وعليهما قوام الهيئة الاجتماعية وانتظامها. على أن القرآن هو شفاء للاجتماع البشري، كما هو شفاء لأفراده: فقد شرع من أصول