وهذه كلها أمور معلومة لديهم، ضرورية عندهم، لا يستطيعون أن ينكروا شيئاً منهاة فلا يمكنهم أن يجحدوا ما عندهم من عقل ومن اختيار، ولا أن ينفوا ما يشاهدونه من الآيات في المخلوقات، ولا أن ينكروا مجيء الرسل إليهم وما تلوا عليهم من آيات.
وبهذه الأشياء قامت حجة الله عليهم، وكان جزاؤهم على ما اختاروه بعدها لأنفسهم.
فأما ما سبق من علم الله فهو أمر مغيب عنهم، غير مؤثر فيهم؛ لأن العلم ليس من صفات التأثير ولا دافع لهم، فليس لهم أن يحتجوا به لأنفسهم؛ لأنهم لم يعملوا لأجله، كيف وهو مغيب منهم؛ وإنما عملوا باختيارهم الذي يجدونه بالضرورة من أنفسهم.
[توجيه للترتيب]
تقوم حجة الله على العبد أولاً.
ويعمل هو- كاسبا ومكتسبا- باختياره ثانياً.
ويظهر لنا ما سبق من علم الله فيه بعد أن اختار ما اختار ثالثاً.
ولهذا قدمت النذارة وما يرتبط بها على هذه الآية التي فيها بيان ما سبق من علم الله فيهم.
[تقريب]
قد يكون لرجل ولدان هو عالم بنفسيتهما، وأخلاقهما، وسيرتهما.
ثم يأمرهما بأمر فيه الخير لهما، وهو يعلم- بما علم من أحدهما- أنه يمتثل، ويعلم- بما علم من الآخر- أنه يخالف.
ويقول لأهل بيته: إن فلاناً سيمتثل، وإن فلانا سيخالف.
فيظهر ما قاله وما علمه في كل واحد منهما؛ فجازى الممتثل على طاعته، وجازى المخالف على عصيانه.
فلا شك أن هذا الرجل قد أحسن إلى ولديه بما أمرهما به من خير، وفعل ما تقتضيه أبوته من النصح والإرشاد، ولا يقدح في ذلك علمه بما سيكون منهما.
كما أن هذين الولدين قد نال كل واحد منهما ما سبق دون أن يكون للمخالف منهما حجة على مخالفته بما كان يعلمه منه أبوه.
لله المثل الأعلى، فقد أحاط بكل شيء علماً، فعلم من سيطيعه ومن سيعصي.
ولكنه الحكم العدل، فلم يكن ليجازيهم على سابق علمه فيهم، الذي لا دخل لهم فيه.
بل جعل جزاءهم بعد إقامة الحجة عليهم بما يكون من اختيارهم، ليكون جزاؤهم على ما عملوا وما قدمت ايديهم وما لهم دخل فيه بالكسب والاكتساب.