للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وشبهت حالة المسرف الذي لا يبقي على شي، بحالة الشخص الباسط لكفيه فلا يمسكان عليه من شيء: فذاك يملك المال، ولكنه بسرفه لا يبقى له منه شيء، وهذا قد يمر الشيء على يده، ولكنه لا يبقى فيها شيء. ونقل المركب الدال على المشبه به إلى المشبه، استعارة تمثيلية أيضاً.

[المعنى]

ولا تخرج جميع ما تملك مع حاجتك إليه، ولا تنفق جميع مالك. وبهذا يعلم أن "كل البسط" المنهى عنه هنا غير التبذير المنهي عنه في الآية المتقدمة: ذاك توزيع المال وتبديده في غير وجوهه، وهذا التجاوز في الإنفاق المطلوب والتوسع في الإنفاق المأذون حتى يبقى بلا شيء.

نهى تعالى بهذه الآية عن طرفي الإفراط والتفريط، وهما الإسراف.

فالمأمور به: هو العدل الوسط، فعلى ذي المال أن يأخذ في انفاقه بهذا الميزان، ليكون إنفاقه محمودا: فلا يمسك عما يستطيع، ولا يتجاوزه إلى ما لا يستطيع، أو إلى ما يوقعه في عسر وضرر.

وكان النهى عن البسط لأنه هو الذي فيه إسراف.

وأما أصل البسط الذي هو توسعه بحكمة، فغير منهي عنه لأنه لا ضرر فيه.

وحذر تعالى من سوء عاقبة الإسراف والتقتير بقوله: {فتقعد ملوماً محسوراً}. فالبخيل الممسك ملوم من الله تعالى.

ومن العباد إذاً من لم تلمه نفسه الخبيثة لموت قلبه. على أنه سيلوم هو نفسه بعد الموت. والمسرف ملوم من الجميع، ومن نفسه بعد ضياع ما في يده.

(والمحسور) المتعب المضنى، الذي انكشفت عنه القوة، ولم تبق به قدرة على شيء، تقول العرب: حسرت البعير أي أنضيته وأتعبته بالسير، حتى لم تبق به قدرة عليه (١).

والجمل لا يقطع الطريق ويصل إلى الغاية إلّا إذا حافط صاحبه على ما فيه من قوة، فسار به سيراً وسطاً. أما إذا أجهده واستنزف قوته، فإنه يسقط كليلاً محسوراً: فلا قطع طريقه، ولا وصل منزله، ولا أبقى جمله.

فكذلك الإنسان في طريق هذه الحياة محتاج إلى قوة المال، فإذا أنفقه بحكمة نفع به وانتفع، وبلغ غاية حياته هادئاً راضياً، وإذا بسط يده فيه كل البسط أتى عليه فانقطع النفع والانتفاع، ولم يبلغ غاية حياته إلاّ بأتعاب ومشاق.

وعلم من هذا أن قوله {ملوماً} يرجع للمقتر والمسرف. وقوله: {محسوراً} يرجع للمسرف فقط. ولكن لما كان المحسور هو الذي ذهبت قوته فلا قدرة له على شيء، فقد نقول: إن


(١) قال في اللسان (مادة حسر- ٤/ ١٨٨): «والعرب تقول: حسرت الدابة إذا سيرتها حتى ينقطع سيرها».

<<  <   >  >>