والتعمق في البحث، لنطلع على كل ما نستطيع الاطلاع عليه من تلك الأسرار: أسرار آيات الأكوان والعمران، وآيات القرآن؛ فنزداد علماً وعرفاناً، ونزيد الدين حجة وبرهاناً، ونجني من هذا الكون جلائل ودقائق النعم، فيعظم شكرنا للرب الكريم المنعم.
فقهنا الله في كتابه، ووفقنا إلى الاهتداء به، والسير على سننه.
...
[منزلة الرسالة العلية والضروريات البشرية]
{وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا (٢٠)} [الفرقان: ٢٠].
لما طعنوا في رسالته، بأنه بشر يفعل ما يفعله البشر بقولهم: {مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ}، رد الله عليهم بأن هذا هو حال جميع المرسلين من قبله، واحتج عليهم بما يعلمون من ذلك بما يسمعون من أهل الكتاب جيرانهم، وبما عندهم من أخبار عاد وثمود من بني جلدتهم.
(الإرسال) هو البعث لتبليغ شيء أو قضائه، وفي لسان الشرع: هو إنزال الله تعالى الوحي على من اصطفاه من خلقه لينذر به من أمره بإنذار. من قوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ} [الشعراء: ١٩٢ - ١٩٤]. فالرسالة وحي مع أمر بالتبليغ.
مفعول أرسلنا محذوف تقديره رجالًا، وعليه عاد الضمير في أنهم، وهو صاحب الحال، والحال هي الجملة التي بعد إلّا، والجملة الثانية حال بالعطف على الأولى. والاستثناء مفرغ من الأحوال.
وتقدير الكلام: وما أرسلنا قبلك رجالاً من المرسلين إلّا حالة أنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق: أي ما أرسلناهم في حالة من الأحوال إلاّ في هذه الحال.
وإن واللام والحصر بما وإلا، [[كل]] هذه لتأكيد المعنى الذي سيق إليه الكلام، وهو إثبات أن رسول البشر لا يكون إلّا بشراً رداً على منكري ذلك المشركين.
وعبر بالمضارع في يأكلون ويمشون؛ لأن ذلك من ضروريات بشريتهم، فهو يتجدد ويتكرر منهم.
وأكل الطعام والمشي في الأسواق كناية عن البشرية، لأنهما وصفان لازمان لها.
[المعنى]
وما ينكر عليك هؤلاء من أكلك الطعام، ومشيك في الأسواق، مع أنك رسول الله! وقد