فمن وحد الله جل جلاله في ربوبيته وألوهيته علماً وعملاً ... فقد استكمل حظه من مقام هذا الأساس العظيم.
ومن أخلَّ بشيء من ذلك كان ذلك نقصاً في دينه بقدر ما أخل حتى ينتهي الأمر إلى خلص المشركين.
نعوذ بالله من الشرك جليه وخفيه، إنه سميع عليم.
[بيان واستدلال]
يكون "الذل" بمعنى ضعف الحال، وهذا قد يكون لأهل التوحيد والإيمان كما في قوله تعالى: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ} [آل عمران: ١٢٣].
ويكون بمعنى اللين المشوب بالعطف وهذا من صفات المؤمنين الممدوحة إذا وقعت في محلها كما في قوله: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [الفتح: ٢٩].
ويكون الذل بمعنى خنوع القلب وخضوعه وانكساره للضعف والافتقار، وهذا هو الذي يكون من المؤمن الموحد لربه كما في حديث دعاء القنوت: «ونخنع لك»، أي نذل ونخضع لك.
وهذا الخنوع هو أساس العبادة القلبية فلذلك لا يكون إلاّ لله.
وإن من أسرار كلمة "الله أكبر" التي يأتي بها المؤمن مرات كثيرة في صلواته وغيرها من أحواله، حفظ القلب من الخنوع للخلق باستشعار عظمة الخالق التي يصغُر عندها كل مخلوق، فلا يزال المؤمن لهذا قوي القلب، عزيز النفس بالله، لا ينتظر قوة بدلاً من ضعفه إلاّ به، ولا سد مفاقره (١) إلاّ منه.
ولقلب المؤمن الموحد أمام من يحب في الله ويعظم بتعظيم الله خضوع أيضاً، ولكنه خضوع هيبة وتوقير وإجلال لا خضوع ذل وخنوع وضعف وافتقار، إذ هذا- كما قدمنا- لا يكون إلاّ للغني القوي العزيز القهار.
من مظاهر هذا الخنوع الذي لا يكون إلاّ لله الطاعة والانقياد، وهي أيضاً لا تكون إلاّ له.
وقد قال تعالى: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الفرقان: ٤٣]. أي أطاعه واتبعه. كما قال تعالى: {وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ} [محمد: ١٦].
فمن اتبع مخلوقاً وأطاعه فيما يأمره وينهاه، دون أن يكون في طاعته مراعياً طاعة الله فقد عبده، واتخذه ربًا فيما أطاعه فيه.
وفي حديث عدي بن حاتم الذي رواه الترمذي وغيره، لما جاء للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ وسمعه يتلو قوله تعالى:
(١) المفاقر: وجوه الفقر؛ يقال: سد الله مفاقره: أغناه. انظر (المعجم الوسيط: [ص:٦٩٧]).