[٢ - إرم ذات العماد وحضارتها]
وفي القرآن ما هو كالتتمة لبحثنا عن حضارة العرب، وكالعلاقة لحضارة عاد بعينها، وهي حكاية عاد إرم ذات العماد.
فهذا الوصف البليغ الذي تقرؤه في سورة الفجر صريح بألفاظه ومعانيه في أنه وصف لحضارة عمرانية لا نظير لها: فالعماد لا تكون إلاّ في القصور والأبنية الباذخة والمدن المخططة على نظام محكم.
وقد قال تعالى وهو العالم بكل شيء إنه لم يخلق مثلها في البلاد.
ومدينة هذا وصفها لا تشيدها إلاّ أمة لا نظير لها في القوة وآثار الحضارة، يتبع بعضها بعضاً في الضخامة والعظم والوصف القرآني لها، وإن سيق للاتعاظ بعاقبتهم، يدل البحث التاريخي على أنهم بلغوا في الحضارة غاية لا وراءها.
وهم أمة عربية، فهذه المدينة شيدت في جزيرة العرب لا محالة.
وإن الأقرب في التذكير بهم والاتعاظ بمصيرهم أن تكون الرؤية في قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ} علمية؛ لأن التذكير عام لمن تتيسر له رؤية العين ولمن لم تتيسر له.
ولو ائتمرت الأمم الإسلامية بأوامر القرآن، لنشأ فيها رواد يرودون الجزيرة، ويجوبون مجاهلها، ولو فعلوا لأمكن أن يعزوا على آثار هذه المدينة في أرض عاد، وهي معروفة، ويجمعوا بين الرؤية البصرية، والرؤية العلمية، وبين العلم والاتعاظ.
وإننا لا نعبأ في مقام البحث العلمي بما حف هذه الحكاية من أساطير، ولا بما وقع فيه شيخ المؤرخين ابن خلدون حينما تعرض لنقض تلك الأساطير.
[٣ - أمة ثمود وحضارتها]
وأمة أخرى من الأمم العربية، وهي (ثمود)، وهي أمة عربية، نلعنها بلعن القرآن لها، ولكننا نذكرها بما ذكرها به القرآن من قوة وتعمير وحضارة.
فصالح رسول هذه الأمة- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقول في دعوتها إلى الله وتعريفها بنعمه: {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} [هود: ٦١].
فآية أمة لا تعمر الأرض إلاّ إذا ملكت وسائل التعمير وهى كثيرة، ومجموعها هو ما نسميه الحضارة أو المدنية.
وقد كشفت لنا عن هذا الاستعمار الثمودي عدة آيات بليغة الوصف، ولكن أبلغها وصفاً وأدقها تصويراً قوله تعالى: