للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

فمن هرب من المخلوقات إلى خالقها نجا، ومن فر من الخالق إلى شيء من مخلوقاته كان من الهالكين.

[إرشاد وتعميم]

كل ما يصيب الإنسان من محن الدنيا ومصائبها وأمراضها وخصوماتها ومن جميع بلائها، لا ينجيه من شيء منه إلاّ فراره إلى الله.

ففي العدالة الشرعية ما يقطع كل نزاع، وفي المواعظ الدينية ما يهون كل مصاب، وفي الهداية القرآنية والسيرة النبوية ما ينير كل سبيل من سبل النجاة والسعادة في الحياة.

يعرف ذلك الفقهاء القرآنيون السنيون.

واسالوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون.

[تنبيه على وهم]

ليس الفرار من الأمراض بمعالجتها ومن المصائب بمقاومتها فراراً من الله؛ لأن الأمراض هو قدّرها والأدوية هو وضعها، ودعا إلى استعمالها، والتعالج بها.

وكذلك المصائب وما شرع من أسباب مقاومتها، فكلها منه بقدره، والإنسان مأمور منه بأن يعالج ويقاوم، فما فر من قدره إلاّ إلى قدره.

ولهذا لما قال أبو عبيدة لعمر- رضي الله عنهما- في قصة الوباء: "أفراراً من قدر الله يا عمر؟

قال عمر: نعم، نفر من قدر الله إلى قدر الله" (١) وفي الحقيقة كان الفرار من شر في مخلوق إلى الله يرجو منه الخير في غيره.

[تحذير من جهالة]

ليس المقصود بالفرار من الدنيا ترك السعي والعمل، وتعاطي الأسباب المشروعة لتحصيل القوت، ورغد العيش، وتوسيع العمران، وتشييد المدنية.

بل المقصود الفرار من شرورها وفتنتها، وتناول ذلك كله على الوجه المشروع هو من الفرار إليه، والدخول تحت شرعه كما قدمناه.

وقد ضل قوم فزعموا ذلك طاعة وعبادة، فعطلوا الأسباب، وخالفوا الشريعة، وحادوا عما ثبت من السنة، وفيهم سئل إمام الحديث والسنة أحمد بن حنبل رحمه الله؛ سئل عن القائل: أجلس لا أعمل شيئاً حتى يأتيني رزقي؛ فقال: "هذا رجل جهل العلم: أما سمع قول النبي-


(١) جزء من حديث طويل أخرجه مالك في الموطأ (كتاب الجامع باب ما جاء في الطاعون، حديث ٢٢) والبخاري في الطب باب ٣٠، ومسلم في السلام حديث ٩٨.

<<  <   >  >>