للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وعرش الله عظمته أعظم من السموات والأرض.

وهكذا لا بد من اعتبار المقام في فهم الكلام.

[للعبرة والقدرة]

قد ألهم الله الحيوانات إلى ما قد يخفى عن بعض العقلاء، مضى منا كلام عن هذا فيما تقدم من هذه الآيات الكريمة.

وهذا الهدهد بين الهداهد (١)، فله إلهام خاص، يقتضيه تخصيصه بهذا الموقف، واتصاله بسليمان عليه السلام، وزمن الأنبياء زمن خرق العوائد، وظهور الآيات.

وقد كان في حسن بيانه، وترتيب أخباره، وبديع تهديه، عبارة بالغة لأولي الألباب.

فقد تحصن بالعلم، ونوه بالنبأ المتيقن، وفصل النبأ فشرح حاليها الدنيوية والدينية، وتنقل من تشويق إلى تشويق أبلغ منه. فكان متثبتاً فيما أخبر، بارعاً فيما صور، مستدلاً فيما قرر، وفيما أنكر، بصيراً بكيد الشيطان للإنسان، متفطناً للأنبياء الضلالات بعضها على بعض، خبيراً بترتيب الأدلة وحسن الاستنتاج.

وفيما ذكر الله لنا من هذه العبر البالغة من هذا الحيوان الأعجم حث لنا على- أن نسلك- عندما نخبر ونبين، أو نبحث وننظر، أو نستدل ونرتب ونعلل- أن نسلك هذا المسلك.

وإذا كان الله- تعالى- قد بعث غرابًا، ليتعلم منه ابن آدم كيف يواري سوءة أخيه (٢)، فكذلك ذكر لنا أمر هذه الهدهد الممتاز بين الهداهد لنقتدي به، تنبيهاً لنا على أخذ العلم من كل أحد، والاستفادة من كل مخلوق، والشعور دائماً بالنقص للسلامة من شر أدواء الإنسان: العجب، والكبر، والغرور {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه: ١١٤]، {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} [يوسف: ٧٦].

[لمحة نفيسة]

الظواهر دلائل البواطن: فالمرء يعرف من سبحات (٣) وجهه، وفلتات لسانه.

وكثيراً ما تدل كلماته على مهنته أو فكرته وعقيدته، كما تدل هيئته أو لبسته وشمائله.

وما يباشره المرء تنطبع به نفسه، ويصطبغ خياله، فيجري على لسانه في تشبيهاته وتمثيلاته وفنون قوله، فقد تختلف العبارات عن شيء واحد في وقت واحد باختلاف نفسيات المتكلمين عليه.


(١) ويجمع أيضاً على "هداهيد" (المعجم الوسيط: [ص:٩٧٨]).
(٢) كما ورد في الآية ٣١ من سورة المائدة: {فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ}.
(٣) السُّبحات: مواضع السجود (المعجم الوسيط: [ص:٤١٢]).

<<  <   >  >>