ولهذه الحاجة المشتركة والحقوق الممتزجة كان الاجتماع والتعاون ضروريين لحياة المجتمع البشري واطراد نظامه. وقيام كل واحد من أفراد المجتمع بما عليه من حقوق نحو غيره هو الذي يسد تلك الحاجة المشتركة بين الناس. وعندما يؤدي كل واحد حق غيره فليست خدمته له وحده، بل هي خدمة للمجتمع كله. وبالآخرة هي خدمة له هو في نفسه لأنه جزء من المجتمع وما يصيب الكل يعود على جزئه. فاذا تواردت أفراد المجتمع على هذه التأدية سعدت وسعد مجتمعنا بنيله حاجيات الحياة ولوازم البقاء والتقدم في العمران. أما إذا توانى الأفراد في القيام بالحقوق وقصروا في تأديتها إلى بعضهم فإن الحاجة المشتركة من العلم والثقافة وحفظ الصحة والأخلاق وأنواع الصناعة- تتعطل، وبتعطلها يختل نظام الاجتماع ويعود إلى الانحلال والتقهقر، وينحظ بأفراده إلى أسفل الدركات، فلهذا بعد ما أمر الله تعالى بإيتاء حقه- وهو توحيده في عبادته- أمر بإيتاء حقوق العباد، القريب منهم والبعيد.
...
[حق القريب]
{وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ}.
ابتدأ بحق القريب لوجوه:
الأول أنه هو مقتضى طبيعة الترتيب.
الثاني: تأكيد حق القريب.
الثالث: إن من حكمة التربية أن يبدأ من الأوامر بما تعين فطرة النفوس الإنسانية على قبوله ببداهة الفكرة أو بشعور العاطفة. وكلتا هاتين يحبب للنفس إيتاء حق القريب فابتدى به في الأمر ليكون تقبلها له أسهل ومبادرتها للامتثال أسرع، فاذا سخت النفوس بإيتاء حق القريب ومرنت عليه اعتادت الايتاء وصار من ملكاتها فسهل عليها إيتاء كل حق ولو كان لأبعد الناس. وشيء آخر، وهو أن الأقارب قد تكون بينهم المنافسات والمنازعات لقرب المنازل، أو تصادم المنافع أو التشاحّ على المواريث ما لا يكون بين الأباعد، فيقطعوا حق القرابة ويهدموا بناء الأسرة، ويعود ذلك عليهم أولا بالوبال، ويرجع ثانيا على مجتمعهم- والمجتمع مؤلف من الاسر- بالتضعضع، فكان هذا من جملة ما يقتضي الابتداء بحقهم إلى المقتضيات المتقدمة الأخرى.
وقوله تعالى:{ذَا الْقُرْبَى} عام يشمل الأصل- وهو الأبوان- وما يتصل بالمرء من ناحيتهما