غير أن القراءة عند السماع، وقبل تمام الإلقاء، تمنع تمام الوعي، لأن عمل اللسان بالنطق يضعف عمل القلب بالوعي والحفظ، فلذا نهى الله تعالى نبيه- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- عن أن يعجل بقراءة القرآن عند سماعه من جبريل، من قبل أن يقضى ويتمم إليه وحيه، فقال تعالى: {وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ}.
[تأكيد الصمت بكف اللسان]
لا يتم تفرغ القلب للوعي إلاّ بسكون اللسان، فلا يكفي في تفرغه ترك القراءة الجهرية عند السماع حتى ينكف اللسان عن الحركة، فلا تكون قراءة لا جهراً ولا سراً، فلذا أكد الله تعالى طلب ترك القراءة بالنهي عن تحريك اللسان فقال تعالى: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ} [القيامة: ١٦].
ثم بين أن الله يجمعه في قلبه- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- بالحفظ، وأنه يطلق بقراءته لسانه بقوله: {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} [القيامة: ١٧]. أي قراءتك إياه.
ثم أمره أن يتبع قراءة جبريل إذا قرأه عليه، فيقرأه كما قرأه بعد فراغه، بقوله: {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} [القيامة: ١٨]. أي فإذا قرأه جبريل وفرغ منه فاتبع قراءته فاقرأه كما قرأه. وأنه تعالى يبينه بأقوال نبيه- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- وأفعاله بقوله: {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [القيامة: ١٩].
[هذا الأدب أدب عام]
إنما المقصود من الكلام البيان عن المراد، وإنما المقصود من السماع وعي الكلام ليفهم المراد. فكما كان على المتعلم أن يسكت حتى يفرغ معلمه من القدر المرتبط بعضه ببعض، مما يلقيه إليه المعلم، حتى يفرغ المعلم من لقائه، كذلك على المناظر أن يستمع لمناظره حتى يستوفي دعواه وحجته.
وعلى كل قارىء لكتاب أن يستوفي ما يرتبط بعضه ببعض منه، ثم يبدي رأيه فيه.
وعلى كل مستمع لمتكلم كذلك.
فبهذا الأدب يتم وعي المتعلم فيحفظ، وفهم المناظر فيرد ويقبل، وفهم القارىء فيعرف ما يأخذ ويترك، وفهم السامع لتحصل فائدة الاستماع.
وبترك هذا الأدب كثيراً ما يقع سوء الوعي أو سوء الفهم، وفوات القصد من المناظرة والقراءة أو الكلام.
دوام [[التعلم]] للازدياد من العلم
يتعلم الإنسان حتى يصير عالماً ويصير معلماً، ولكنه مهما حاز من العلم وبلغ من درجة فيه، ومهما قضى من حياته في التعليم وتوسع فيه وتكمل، فلن يزال بحاجة إلى العلم، ولن تزال أمامه فيما علمه أشياء مجهولة يحتاج إليها.