وأعيان الصحابة كانوا على هذا، فأجراهم النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- وائتمروا بأمر الله، واصطبروا على بلائه، ولم تتعلق قلوبهم بدنيا، ولا ارتبطت أبدانهم بمال منها، وذلك لثقتهم بموعود الله في الرزق، وعزوف أنفسهم عن التعلق بغضارة (١) الدنيا.
وقد كان من أشياخي من ارتقى إلى هذه المنزلة: فما ادخر قط شيئاً لغد ولا نظر بمؤخر عينه إلى أحد، ولا ربط على الدنيا بيد.
فههنا ثلاثة أصناف من الخلق:
الأعم الأكثر، وهم أهل الحظوظ البشرية.
والقليل، وهم الذين ضعفت فيهم حظوظهم.
والأقل الأندر، وهم الذين زالت منهم تلك الحظوظ.
وقد أفادتنا السنة العملية المتقدّمة في كلام الإمام ابن العربي:
أن لأهل الصنف الثاني أن يخرجوا عن كثير من أموالهم على مقدار ما بقي من حظوظهم.
وأن لأهل الصنف الثالث أن يخرجوا منها كلها.
وأما أهل الصنف الأول فلا يخرجون عن الوسط الذي بينته الآية.
وقد جاءت الآية الكريمة على مقتضى حال الأعم الأكثر: لأنها قاعدة عامة في سياسة الإنفاق، وشأن القواعد العامة أن يعتبر فيها جانب الأعم الغالب، ولا يلتفت للنادر.
وقد وكل للنبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- بيانه، فجاء مبيناً فيما تقدم من سننه.
وتقررت القاعدة واستثناؤها من الكتاب والسنة، وهما مصدر التشريع.
...
[تفاوت الأرزاق من حكمة الخلاق]
{إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا}.
لما أرشدنا تعالى إلى السلوك الأقوم في العمل في باب الإنفاق، أرشدنا إلى العقد الصحيح في مسألة تفأوت الأرزاق، وفي ذلك تمام الهداية إلى الاستقامة في الظاهر والباطن.
وإن أحوال العباد في الغنى والفقر، والسعة والضيق، وتعاقبها عليهم بسرعة وبمهل وتفاوتهم فيها لما يخفى ولما يظهر من العلل- لأمر عجب عجاب، يحير الألباب!!.
فعلمنا الله تعالى في هذه الآية أن الرب- وهو الذي يربي المربوب في أحواله وأطواره، بمقتضى الصلاح والصواب- هو الذي يبسط ويوسع على من يشاء- ولا يشاء إلاّ ما هو حق، وعدل، وصواب، وإن خفي علينا وجهه.
{ويقدر}: أي يضيق على من يشاء، وكل أحد هو حقيق بالحال الذي هو فيه. وأنه كان
(١) نقول: إنهم لفي غضارة من العيش، وفي غضارة عيش: في سعة ونعمة (المعجم الوسيط: [ص:٦٥٤]).