ليس في الآية ما يفهم خصوص نتف الريش من لفظ العذاب الشديد، وإنما فهم ابن عباس- رضي الله عنه- وأئمة من التابعين ذلك بالنظر العقلي والاعتبار؛ فإن نتف ريشه يعطل خاصية الطيران فيه، فيتحول من حياة الطير إلى حياة دواب الأرض، وذلك نوع من المسخ، وقد علم أن المسخ في القرآن أشنع عقوبة في الدنيا، فلهذا فسروا العذاب الشديد بنتف الريش.
والإنسان خاصيته التفكير في أفق العلم الواسع الرحيب، فمن حرم إنساناً- فرداً أو جماعة- من العلم فقد حرمه من خصوصية الإنسانية، وحوله إلى عيشة العجماوات، وذلك نوع من المسخ، فهو عذاب شديد، وأي عذاب شديد؟!
كان هذا الهدهد من جنود سليمان التي حشرت له، وقد كان في مكانه الذي عين له وأقيم فيه، فلما فارق وترك الفرجة في صفه وأوقع الخلل في جنسه استحق العقاب الصارم الذي لا هوادة فيه.
وهذا أصل في صرامة أحكام الجندية وشدتها؛ لعظم المسؤولية التي تحملتها وتوقف سلامة الجميع على قيامها بها، وعظم الخطر الذي يعم الجميع إذا أخلت بها.
[تقدير العقوبة]
جرم الهدهد صغير، وما كلف إلاّ بما يستطيعه من الوقوف في مكانه والبقاء في مركزه، ولكن جرمه بإخلاله بهذا الواجب كان جرماً كبيراً؛ فإن الخلل الصغير مجلبة للخلل الكبير، فقدرت عقوبته على حسب كبر ذنبه لا على حسب صغر ذاته.
[تنبيه وإرشاد]
كل واحد في قومه أو في جماعته هو المسؤول عنهم من ناحيته، مما يقوم به من عمل حسب كفاءته واستطاعته، فعليه أن يحفظ مركزه ولا يدع الخطر يدخل، ولا الخلل يقع من جهته؛ فإنه إذا قصر في ذلك وترك مكانه فتح ثغرة الفساد على قومه وجماعته، وأوجد السبيل لتسرب الهلاك إليهم. وزوال حجر صغير من السد المقام لصد السيل يفضي إلى خراب السد بتمامه.
فإخلال أي أحد بمركزه- ولو كان أصغر المراكز- مؤد إلى الضرر العام.
وثبات كل واحد في مركزه وقيامه بحراسته هو مظهر النظام والتضامن وهما أساس القوة.
[الحق فوق كل أحد]
لقد أغضب سليمان غياب الهدهد، فلذا توعده هذا الوعيد، وأكده هذا التأكيد، ولكن سلطان سليمان في قوته وملكه ومكانته يجب أن يخضع لسلطان آخر هو أعظم من سلطانه: هو سلطان الحق، والحق فوق كل أحد، وملك سليمان ملك حق، فلا بد له من الخضوع لسلطان الحجة، ليقيم ميزان العدل، والعدل أساس الملك، وسياج العمران. اهـ.