للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

[العقل ميزة الإنسان وأداة علمه]

يمتاز الحيوان عن الجماد بالإدراك، ويمتاز الإنسان عن سائر الحيوان بالعقل، وعقله هو القوة الروحية التي يكون بها التفكير.

وتفكيره هو نظره في معلوماته التي أدرك حقائقها، وأدرك نسب بعضها لبعض إيجاباً وسلباً، وارتباط بعضها ببعض نفياً وثبوتاً. وترتيب تلك المعلومات بمقتضى ذلك الارتباط على صورة مخصوصة، ليتوصل بها إلى إدراك أمر مجهول.

فالتفكير اكتشاف المجهولات من طريق المعلومات، والمفكر مكتشف ما دام مفكراً.

ولما امتاز الإنسان عن سائر الحيوان بالعقل والتفكير- امتاز عنه بالتنقل والتحول في أطوار حياته، ونظم معيشته بمكتشفاته ومستنبطاته: فمن المشي على الأقدام، إلى التحليق في الجو، مثلا. وبقي سائر الحيوان على الحال التي خُلق عليها دون أي انتقال.

وبقدر ما تكثر معلومات الإنسان، ويصح إدراكه لحقائقها ولنسبها، ويستقيم تنظيمه لها- تكثر اكتشافاته واستنباطاته في عالمي المحسوس والمعقول، وقسمي العلوم والآداب.

وهذا كما كان العرب والمسلمون أيام، بل قرون مدنيتهم: عربوا كتب الأمم إلى ما عندهم، ونظروا وصححوا واستدركوا واكتشفوا؛ فأحيوا عصور علم من كانوا قبلهم، وأناروا بالعلم عمرهم. ومهدوا الطريق ووضعوا الأسس لما جاء بعدهم؛ فأدوا لنوع الإنسان بالعلم والمدنية أعظم خدمة تؤديها له أمة في حالها وماضيها ومستقبلها.

وكما نرى الغرب في مدنيته اليوم:

ترجم كتب المسلمين فعرف علوم الأمم الخالية التي حفظتها العربية وأدتها بأمانة.

وعرف علوم المسلمين ومكتشفاتهم، فجاء هو أيضاً بمكتشفاته العجيبة التي هي ثمرة علوم الإنسانية من أيامها الأولى إلى عهده وثمرة تفكيره ونظره فيها.

وقد كانت مكتشفاته أكثر من مكتشفات جميع من تقدمه- كما كانت مكتشفات صدر هذا القرن أكثر من مكتشفات عجز (١) القرن الماضي- لتكاثر المعلومات؛ فإن المكتشفات تضم إلى المعلومات، فتكثر المعلومات، فيكثر ما يعقبها من المكتشفات على نسبة كثرتها.

وهكذا يكون كل قرن- ما دام التفكير عَمَّالًا- أكثر معلومات ومكتشفات من الذي قبله.

فإذا قلت معلوماته قلت اكتشافاته. وهذا كما كان النوع الإنساني في أطواره الأولى.

واذا كثرت معلوماته وأهمل النظر فيها .. بقي حيث هو جامداً، ثم لا يلبث أن تتلاشى من


(١) يريد بصدر هذا القرن وعجزه: نصفه الأول ونصفه الثاني، أو شطره الأول وشطره الثاني؛ كما يقال في شطر البيت الأول من الشعر: صدراً، وفي شطره الثاني: عَجزاً.

<<  <   >  >>