ويقوي فيهم خلق الصبر والثبات وينبههم إلى مواطن الضعف فيهم أو ناحية التقصي منهم، فيتداركوا أمرهم بالإصلاح والمتاب، فإذا هم بعد ذلك الابتلاء أصلب عوداً، وأطهر قلوباً، وأكثر خبرة، وأمنع جانباً.
وإن في صبر الصابر منهم وقد نزل به البلاء الذي لا يقدر على دفعه، والظلم الذي لا يقدر على إزالته.- لبعثًا للقوة في نفس غيره ممن يأتسي به، وضعفاً في قلب ظالمه، وفي كليهما دفع من الله عن المؤمنين.
[مشاهدة وتوصية]
نعرف في حياتنا مواطن ما نجونا فيها إلاّ بدفع الله، وبطل كيد الكائدين فيها بمحض صنع الله، وقد كنا فيها- فيما نرى- على شيء من العمل لله. فكيف بمن كانت أعمالهم كلها لله؟
وهذه المشاهدة التي شاهدنا- ولا نشك أن من غيرنا من شاهد مثلنا أو أكثر منا- توجب علينا أن نوصي بالإيمان بالله والمحافظة على عهده والثقة به، فإن ذلك يحقق وعد الله بالدفع، وينيل أهله العزة والحفظ.
فعلى المسلم أن يعمل لذلك، ويعتد به ثقة بالله وصادق وعده. والله لا يخلف الميعاد.
...
[٩ - أكل الحلال والعمل الصالح]
{يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (٥١)} [المؤمنون: ٥١].
(الطيب) ما صلح واعتدل في نفسه، وسلم من كل ما يفسده ويخرجه عن اعتداله وأصل خلقته، فكان مستلذاً للنفوس، سواء أكان مما يدرك بالسمع، أو بالبصر، أو بالذوق، أو بالشم، أو باللمس، أو بالعقل.
فالطيب هو اللذيذ لذة حسية أو عقلية، ويقابله الخبيث وهو المستقذر حساً أو عقلاً، وعلى هذا جاء قوله تعالى: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف: ١٥٧]. فما أحل الله إلاّ الطيب المستلذ، وما حرم إلاّ الخبيث المستقذر.
فلهذا صار الطيب في لسان الشرع يجيء كثيراً بمعنى الحلال، ويكون ضده الخبيث بمعنى الحرام، ومنه {كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ} أي المحللات، فملك غيرك وإن كان مستلذاً في الحس، فإنه ليس طيباً لك شرعاً؛ وذلك لأنه مستقذر من العقل بما فيه عند تناوله بدون إذن صاحبه من التعدي المستقبح في العقل.
وقد يجيء الطيب بمعنى الجيد والخبيث بمعنى الرديء وعليه قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} [البقرة: ٢٦٧].