إنهم قالوه لمجرد التعليم، وهو في الواقع لا حقيقة له؛ إذ الإخبار عن النفس بشيء أنه كان وهو لم يكن .. هو الكذب الذي عصمهم الله منه، ونزههم عنه، ولو تفطن حضرته لهذا لما قال ما قال!!
١٢ - وذكر حديث الإحسان:
«أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ» (١).
وهذا الحديث يقتضي دوام المراقبة لله عند كل حركة وسكون، حتى لا تكون من العبد مخالفة فيهما، وحتى يأتي بعبادته على غاية الإتقان في صورتها وأتم الإخلاص بها.
وقد علمت أن مقتضى العبادة الشرعية الشعور بضعف وذل وفقر العبودية أمام عز وقوة وفضل الربوبية؛ فينبعث الرجاء والخوف في العابد، وهما مما يحملانه على تمام الإحسان في العبادة: بإتقانها والإخلاص فيها.
ثم من مقتضى مراقبة الله تعالى، مشاهدته: أي مشاهدة جلاله وجماله؛ جلاله بصفات القهر والبطش والملك والسلطان، وجماله بصفات الفضل والرحمة والإحسان؛ وبصدق المشاهدة لصفات الجلال يخاف العبد ويخشى؛ وبصدق المشاهدة لصفات الجمال يرجو ويطمع. فصدق الشهود لا بد معه من الرجاء والخوف.
وإذا غاب العبد عن الشعور بالموجودات، فإنه لا يغيب عن مشاهدة جلال وجمال الذات، الباعثين للخوف والرجاء. وإذا لم يشهدهما وزعم أنه يشهد الذات مجرداً .. فإنه لم يكن في الحقيقة مشاهداً، بل كان غافلًا معطلاً جامداً.
وأما غيبوبة العابد عن نفسه- إن كانت- فإنها حالة عارضة غير ثابتة، وليست مشروعة لا بنص من آية ولا من حديث، فضلاً عن أن تكون فاضلة كاملة.
فالحديث دل على المراقبة والمشاهدة الشرعيتين، اللتين يكون العبد عابدا ًالعبادة الشرعية، الموضوعة على الرجاء والخوف حسب الأدلة المتقدمة.
١٣ - ونقل كلام ابن سينا في كتاب الإشارات وكلام شراحه، وهو مثل ما تقدم لنا إبطاله بأدلة الكتاب والسنة، والشرح بهما لمعنى العبادة المشروعة.
وإذا كنا نبحث عن العبادة التي شرعها الله لعباده على لسان رسوله .. فإننا لا نعرفها إلاّ من الكتاب والسنة، وقد قدمنا من أدلتها ما جلى المسألة للعيان، وأغنى فيها عن كل كلام.
(١) رواه من حديث أبي هريرة البخاري في الإيمان باب ٣٧، وتفسير سورة ٣١ باب ٢، ومسلم في الإيمان حديث ٥ و٦. ورواه مسلم في الإيمان حديث ١ من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه.