فكان من لطف الله بالإنسان أن جعل لعقله حداً يقف عنده، وينتهي إليه، ليسلم من هذا الخطر: خطر الإعجاب بالعقل.
ففي آيات الله الكونية حقائق كثيرة تقف العقول حيارى أمامها، وقد تشهد آثارها، ولا تستطيع أن تعرف كنهها، كحقيقة الكهرباء في الكون، وحقيقة الروح والعقل في الإنسان.
فمثل هذه الحقائق المنغلقة التي يرتد عقل الإنسان إليه عنها خاسئاً وهو حسير، هي التي تعرفه بقدره، وبعظمة هذا الكون، وفخامة أمره، فيقف بعقله عند حد النظر والاعتبار، والاستدلال ببديع الصنعة وعظيم النعمة على حكمة الله البالغة، ومنته السابغة، دون خلط للأوهام بالحقائق، ولا فتنة بالمخلوق عن الخالق.
هذه الحقائق التي خفيت عن العقل البشري، فلم يدرك كنهها، لم تقدح في دلالة آيات الأكوان، على ما دلت عليه من وجود الخالق ووحدانيته، وقدرته، وعلمه، وحكمته، وفضله، وإحسانه، ورحمته.
فكذلك لم يقدح في بيان القرآن ودلالة آياته، خفاء معاني بضع عشرة كلمة من كلماته.
وكما كان خفاء تلك الحقائق في الآيات الكونية، إيقافاً للعقل عند حده، وتعريفاً له بقدره، وتنبيهاً له على عظم آيات ربه؛ كذلك كان خفاء هذه المعاني في الآيات القرآنية لمثل ذلك. ونظير الآيات الكونية والآيات الكلامية في هذا الجلاء العام، والخفاء الخاص .. جملة من الأحكام:
كعدد الصلوات، والركعات، والسجدات، التي خفيت على العقول حكمتها، وقد ظهرت الحكم الكثيرة الجلية في سائر أحكام الشريعة غيرها.
ولم يقدح في حكمة الشريعة في أحكامها، خفاء ما خفي في بعضها.
كما لم يقدح خفاء ما خفي من حقائق الآيات الكونية، ومعاني الآيات الكلامية في دلالتها وبيانها.
والحكمة هنا في هذه الأحكام هي الحكمة المتقدمة فيهما.
ونظير الآيات الكونية، والآيات الكلامية، والأحكام الشرعية، في هذا الخفاء الجزئي تصرفات الله في خلقه بمجاري أقداره.
فقد تظهر حكمة الله فيها، وقد تخفى.
وقد تخفى دهراً وتظهر بعد مدة.
وقد نبهنا الله على هذه الحقيقة، بما قص علينا في قصة يوسف عليه السلام، وما كان مجهولًا من حكم قدر الله في مبدإ أمره، وما ظهر من تلك الحكم الباهرة للقدر في آخر أمره.
وبما قصه علينا في قصة أم موسى- عليه السلام- لما أوحى إليها بقذفه في اليم، وعدم الخوف عليه، وما كان من عواقب أمره.