للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وإننا إذا انتقلنا إلى هذه الناحية من الجزيرة: نجد العز القدموس (١)، والمجد الباذخ، والماضي الزاهر لهذه الأمة التي نفتخر بالانتساب إليها، ونباهي الأمم بمدنياتها بالحق والبرهان.

وإننا في حديثنا عن اليمن لا نخرج عن شواهد القرآن:

قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (١٥) فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (١٦) ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ (١٧) وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ (١٨) فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (١٩)} [سبأ: ١٥ - ١٩].

ليس المقام مقام تبسط في وجوه البلاغة المعجزة التي تنطوي عليها هذه الآيات:

فقد استوعبت تاريخ أمة في سطور، وصورت لنا أطواراً اجتماعية كاملة في جمل قليلة أبدع تصوير، ووصفت لنا بعض خصائص الحضارة والبداوة في جمل جامعة، لا أظن غير اللسان العربب يتسع لحملها: كقوله {قُرًى ظَاهِرَةً}، وكقوله: {وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ}، وكقوله: {بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا}. حتى إذا وصل القارىء إلى مصير الأمة التي سمع ما هاله من وصفها، واجهه قوله تعالى: {فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ}. وأدركه الغرق في لجج البلاغة الزاخرة.

اللهم إن السلامة في الساحل، وإننا لا نعدو موضوعنا، وهو تصوير حضارة العرب مما يحكيه القرآن عنها في معرض بيان مصائرها حين كفرت بأنعم الله وبرسله.

الآيات صريحة في أن مدنية سبأ كانت مدنية زاهرة مستكملة الأدوات.

ومن قرأ القرآن بعقله فهم ما نفهم من آياته، وعلم ما نعلم أن مدن سبأ كانت عامرة بالبساتين عن يمين وشمال. ويمين من؛ وشمال من؛ إنه ولا شك يمين السائر في تلك المدن أو الأراضي وشماله.

ومعنى هذا: أن طرق السير كانت منظمة تبعاً لتنظيم الغروس عن يمينها وشمالها. والاكتشافات الأثرية اليوم التي كان لليمن حظ ضئيل منها- وإن كان على غير يد أهلها- تشهد بأن أمم الحضارات اليمنية كانت من أسبق الأمم إلى بناء السدود المنيعة، لحصر المياه والانتفاع بها في تعمير الأرض، وإقامة السدود لا تتم بالفكر البدوي، والعمل اليدوي، بل تتوقف على علوم


(١) القدْمُوس والقُدموسة: الصخرة العظيمة. وجيش قدموس: عظيم. والقدموس: الملك الضخم. وقيل: هو السيد. والقدموس: القديم. وعز قدموس وقدماس: قديم، يقال: حسب قدموس أي قديم. والقدموس: المتقدم. وقدموس العسكر: مقدمه. والقدموس والقدامس: الشديد. انظر لسان العرب (٦/ ١٧٠ - مادة قدمس).

<<  <   >  >>