ثم إذا قدم على الله في الآخرة جعل له وحضر له جهنم دار العذاب، واضطره إلى دخولها. فيصليها {مذموماً} مذكورا بقبح فعله وسوء صنيعه في قلة شكره لربه، وعدم استعماله لما كان أنعم عليه به في طاعته، وعدم نظره لعاقبة أمره. {مدحوراً} مبعدا في أقصى النار مطروداً من الرحمة.
حرم نفسه من استثمار رحمة الله في الدنيا بالشكر عليها، فكان عدلًا أن يحرم منها في الاخرة.
ونظير هذه الآية آية: {ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له في الآخرة من نصيب} [الشورى:٢٠]. عمل للدنيا فنال نصيبه منها، ولم يعمل للآخرة فلم يكن له نصيب فيها.
والتقييد بمن في قوله تعالى: {منها} على أن ما يناله- سواء أكان كل ما أراد أو بعضه- ما هو إلاّ بعض من الدنيا.
وإذا كانت الدنيا كلها شيئاً زهيداً، بقلتها وفنائها ونغصها بالنسبة لأقل شيء من نعيم الآخرة- فما بالك بما هو بعض منها؛ فلقد خاب وخسر من استبدل بنعيم الآخرة هذا القليل الخسيس المنغص الزهيد!
ونظيرها أيضاً آية: {من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوفِّ إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون. أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلاّ النار وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون} [هود: ١٥، ١٦].
وتوفيتهم أعمالهم، إنالتهم ثمراتها مكملة في الدنيا، وهم فيها لا يبخسون: لا ينقصون من جزائهم عليها بتحصيل المسببات التي توسلوا إليها بأسبابها. ثم في الآخرة تحبط تلك الأعمال فلا يكون عليها من جزاء ولا لها من ثمرة، لأنها كانت أعمالًا باطلة لا ثبات لها.
عمل لدنيا دار الزوال فزالت بزوالها، وبقي على عمالها إثم عدم شكرهم لربهم فدخلوا به النار، وتلك عاقبة الظالمين.
غير أن هاتين الآيتين مطلقتان في الشيء المعطى والشخص المعطى له. وآية "الإسراء" مقيدة بمشيئة الله تعالى وإرادته فيهما، والمطلق محمول على المقيد في البيان والأحكام.
وقد أفادت هذه الآيات كلها، أن الأسباب الكونية التي وضعها الله تعالى في هذه الحياة وسائل لمسبباتها، موصلة- بإذن الله تعالى- من تمسك بها إلى ما جعلت وسيلة إليه، بمقتضى أمر الله وتقديره وسنته في نظام هذه الحياة والكون، ولو كان ذلك المتمسك بها لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر ولا يصدق المرسلين.
ومن مقتضى هذا: أن من أهمل تلك الأسباب الكونية التقديرية الإلهية، ولم يأخذ بها لم ينل مسبباتها ولو كان من المؤمنين، وهذا معلوم ومشاهد من تاريخ البشر في ماضيهم وحاضرهم. نعم لا يضيع على المؤمن أجر إيمانه، ولكن جزاءه عليه في غير هاته الدار، كما أن الآخر لم