ولما كان الإنسان- بما فطر عليه من الضعف والاستعجال- كثيراً ما يبني أقواله وأفعاله واعتقاداته على شكوكه وأوهامه، وعلى ظنونه حيث لا يكتفي بالظن، وفي هذا البناء الضرر والضلال .. بين الله تعالى لعباده في محكم كتابه أنه لا يجوز لهم، ولا يصح منهم البناء لأقوالهم، وأعمالهم، واعتقاداتهم، إلاّ على إدراك واحد وهو العلم، فقال تعالى:
{ولا تقف ما ليس لك به علم} أي لا تتبع ما لا علم لك به فلا يكن منك اتباع بالقول، أو بالفعل، أو بالقلب، لما لا تعلم؛ فنهانا عن أن نعتقد إلاّ عن علم أو نفعل إلاّ عن علم، أو نقول إلاّ عن علم.
فما كل ما نسمعه وما كل ما نراه نطوي عليه عقد قلوبنا، بل علينا أن ننظر فيه، ونفكر، فإذا عرفناه عن بينة اعتقدناه، وإلاّ تركناه حيث هو، في دائرة الشكوك والأوهام، أو الظنون التي لا تعتبر.
ولا كل ما نسمعه أو نراه أو نتخيله نقوله. فكفى بالمرء كذباً أن يحدث بكل ما سمع، كما جاء في الصحيح (١).
بل علينا أن نعرضه على محك الفكر؛ فإن صرنا منه على علم قلناه، مراعين فيه آداب القول الشرعية، ومقتضيات الزمان، والمكان، والحال، فقد أمرنا أن نحدث الناس، بما يفهمون- وما حدث قوم بحديث لا تبلغه عقولهم إلاّ كان عليهم فتنة- وإلاّ طرحناه.
ولا كل فعل ظهر لنا نفعله. بل حتى نعلم حكم الله تعالى فيه، لنكون على بيّنة من خيره وشره، ونفعه وضره.
فما أمر تعالى إلاّ بما هو خير وصلاح لعباده، وما نهى تعالى إلاّ عما هو شر وفساد لهم، أو مؤد إلى ذلك.
وإذا كان من المباحات نظرنا في نتائجه وعواقبه ووازنا بينها، فإذا علمنا بعد هذا كله من أمر ذلك الفعل ما يقتضي فعله فعلناه وإلاّ تركناه.
فلا تكون عقائدنا- إذا تمسكنا بهذا الأصل الإسلامي العظيم- إلاّ حقاً.
ولا تكون أقوالنا إلاّ صدقاً.
ولا تكون أفعالنا إلاّ سداداً.
ولعمر الله إنه ما دخل الضلال في عقائد الناس، ولا جرى الباطل والزور على ألسنتهم، ولا كان الفساد والشر في أفعالهم، إلاّ بإهمالهم، أو تساهلهم في هذا الأصل العظيم.
(١) رواه مسلم في صحيحه (المقدمة، باب ٣، حديث ٥) من طريق حفص بن عاصم عن أبي هريرة مرفوعاً.