فحدثت المدن والأمصار والقرى والديار. ثمّ إن الملوك الماضية لمّا أرادوا بناء المدن، أخذوا آراء الحكماء في ذلك، فالحكماء اختاروا أفضل ناحية في البلاد، وأفضل مكان في الناحية، وأعلى منزل في المكان من السواحل والجبال ومهبّ الشمال، لأنّها تفيد صحّة أبدان أهلها وحسن أمزجتها، واحترزوا من الآجام والجزائر وأعماق الأرض، فإنّها تورث كربا وهرما.
واتّخذوا للمدن سورا حصينا مانعا، وللسور أبوابا عدّة حتى لا يتزاحم الناس بالدخول والخروج، بل يدخل ويخرج من أقرب باب إليه. واتّخذوا لها قهندزا لمكان ملك المدينة والنادي لاجتماع الناس فيه، وفي البلاد الإسلامية المساجد والجوامع والأسواق والخانات والحمّامات، ومراكض الخيل، ومعاطن الإبل، ومرابض الغنم، وتركوا بقيّة مساكنها لدور السكان، فأكثر ما بناها الملوك العظماء على هذه الهيئة، فترى أهلها موصوفين بالأمزجة الصحيحة والصور الحسنة والأخلاق الطيّبة، وأصحاب الآراء الصالحة والعقول الوافرة، واعتبر ذلك بمن مسكنه لا يكون كذلك مثل الديالم والجيل والأكراد، والتركمان وسكان البحر في تشويش طباعهم وركاكة عقولهم واختلاف صورهم.
ثمّ اختصّت كلّ مدينة لاختلاف تربتها وهوائها بخاصيّة عجيبة، وأوجد الحكماء فيها طلسمات غريبة، ونشأ بها صنف من المعادن والنبات والحيوان لم يوجد في غيرها، وأحدث بها أهلها عمارات عجيبة، ونشأ بها أناس فاقوا أمثالهم في العلوم والأخلاق والصناعات، فلنذكر ما وصل إلينا من خاصيّة بقعة بقعة، إن شاء اللّه تعالى.