للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قال: قد عزمت على أن أستخلفك على أولاد الرشيد، فقال الأحمر: لعلى لا أفى بما يحتاجون إليه. فقال له الكسائىّ: إنما يحتاجون فى كل يوم إلى مسألتين فى النحو، وبيتين من معانى الشعر وأحرف من اللغة، وأنا ألقّنك فى كل يوم قبل أن تأتيهم ذلك، فتحفظه وتعلّمهم، فقال: نعم. فلما ألحوا عليه قال: قد وجدت لكم من أرضاه، وإنما أخّرت ذلك حتى وجدته- وأسماه لهم- فقالوا له:

اخترت لنا رجلا من رجال النوبة، ولم تأت بأحد متقدّم فى العلم. فقال:

ما أعرف فى أصحابى فى الفهم والصيانة مثله، ولست أرضى غيره لكم. فأدخل الأحمر إلى دار، وفرش له البيت الذى فيه بفرش وخيش.

وكان الخلفاء إذا أدخلوا مؤدّبا إلى أولادهم فجلس أوّل يوم أمروا عند قيامه بحمل كل ما فى المجلس إلى منزله مع ما يوصل به، ويوهب له. فلما أراد الأحمر الانصراف إلى منزله دعى له بحمّالين، فحمل معه ذلك كله مع بزّ كثير.

فقال الأحمر: والله ما يسع بيتى هذا، وما أنا إلا فى غرفة ضيّقة فى بعض الخانات ليس فيها من يحفظه غيرى، وإنما يصلح هذا كلّه لمن له دار وأهل وكلّ شىء يشاكله. فأمر بشراء دار له وجارية، وحمل على دابة، ووهب له غلام، وأقيم له جار له ولمن عنده. وجعل يختلف إلى الكسائىّ كل عشيّة، فيتلقّن ما يحتاج إليه أولاد الرشيد ويغدو عليهم فيلقّنهم. وكان الكسائىّ يأتيهم فى الشهر مرّة أو مرّتين، فيعرضون عليه بحضرة الرشيد ما علّمهم الأحمر. وكان الكسائىّ لا يسألهم إلّا عمّا لقّنهم الأحمر، فيجيبوه عنه، فيثنى على الأحمر بذلك ويرضاه.

ولم يزل الأحمر كذلك حتى صار نحويّا، وحسنت حاله، وعرف بالأدب حتى قدّم على سائر أصحاب الكسائى. ولم يكن قبل ذلك له ذكر، ولا يعرف. ولما تمكّن

<<  <  ج: ص:  >  >>