للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فبذل ماله في الإنفاق في قرى الضيفان، وبذل ما هو أعز من نفسه وهو ولده حيث امتثل أمر ربه عز وجل على هيئةٍ لا يطيقها البشر البتة من ذبحه له بيده. وأي شيءٍ أعظم من هذه التوفية؟ ومنه في المعنى: {وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلماتٍ فأتمهن} [البقرة: ١٢٤] وقد قيل في هذه الآية معنىً آخر؛ وهو أن إبراهيم التزم ألا يسأل غير ربه. فلما رفع في المنجنيق ليرمى في النار اعترضه جبريل عليه السلام وقال له: ألك حاجة؟ فقال: أما إليك فلا. فهذا توفيته. وأنشدني بعضهم في هذا المعنى بحرم الخليل عليه السلام، والشعر للوأواء الدمشقي من قصيدته المشهورة: [من البسيط]

١٨٢٨ - قالت لطيف خيالٍ زارني ومضى: ... بالله صفه ولا تنقص ولا تزد

فقال: خلفته لو مامت من ظمأ ... وزدته عن ورود الماء لم يرد

قالت: صدقت وفاء الحب عادته ... يا برد ذاك الذي قالت على كبدي

وقال هذا المنشد: إن ابن الجوزي، حين ذكر قصة الخليل أنشد الأبيات وهو حسن جدًا.

وتوفية الشيء: بذله وافيًا. واستيفاؤه: تناوله وافيًا. ومنه قوله تعالى: {ووفيت كل نفسٍ ما عملت} [الزمر: ٧٠] {الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون} [المطففين: ٢]. وسمي الموت والنوم توفيًا لأنهما استيفاء مدةٍ. قال تعالى: {الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها} [الزمر: ٤٢]. وقوله: {والذين يتوفون منكم} [البقرة: ٢٣٤] أي يموتون، وقرئ بفتح الياء، وتأويلها: يتوفون آجالهم. وهذه القراءة تبطل حكايةً عن الشعبي أنه قال له رجل وهو في جنازةٍ: من المتوفي؟ فقال الشعبي: الله تعالى، قاله الزمخشري وفيه نظر لجواز أن هذه القراءة لم تبلغ الشعبي لا سيما وهي شاذة.

قوله تعالى: {إني متوفيك} [آل عمران: ٥٥] قيل: توفي رفعة لا موت. وعن ابن عباس: إنه توخي موتٍ فإنه أماته ثم أحياه. وقال: فيه تقديم وتأخير تقديره. رافعك إلي ومتوفيك. قال: وقد تكون الوفاة قبضًا وليست بموتٍ. يقال: توفيت حقي من فلانٍ

<<  <  ج: ص:  >  >>