يتبوّأ ابن حجر العسقلاني - في جدارةٍ واستحقاق - مركزَ الصدارة بين المحدثين والحفّاظ في العالم الإسلامي منذ بداية القرن التاسع للهجرة. وهو مركز لم يستطع احتلاله أحدٌ مّمن عاصروه وزاحموه - وهم كُثر -، ولا مِمَّنْ جاءوا بعده وشغلوا أَنفسهم بهذا الضرب أو ذاك من تلك الدراسة، فانعقد الإجماع على أنه حامل رايتهم والمقدَّم فيهم والمهتَدَى برأيه وقوله حين تضطرب المسالكُ وتتشعّب ويُخشى الزلّل: وقد يسّر له ذلك ميل فطريّ لدراسة الفقه والحديث وولعٌ بمعرفة أسانيده، إلى جانب ما انطبع عليه من قدرةٍ على تبيان صفات رجاله، وذكاءٍ غريزي جعل منه محدّثا لم يظهر أَرشح منه فؤادًا، وحافظًا يبارى فهمُه سمعَه، فصار بذلك الحجةَ وعليه المعوّل فيما اختلف فيه المختلفون مما يتعلّق بهذا الموضوع.
وابن حجر متعدّد الجوانب من حيث الثقافة، فقد أَسهم في الحديث والفقه والأدب والتاريخ، وطُبِعَت مؤلفاته - صغيرها وكبيرها - ومجالسُ إملائه - كما يشهد تلاميذه وغير تلاميذه ممن عاصروه في مصر والشام وغيرهما من بلاد العالم الإسلامي - بطابع الدقة وتحكيم العقل والمنطق، فهو لا يورد خبرًا إلَّا بعد أن يكون قد انتظمت له عنده أسباب الدراسة والبحث والتمحيص والتحقيق والمقارنة والتثبت والإيضاح، وإلَّا بعد أَن يكون قد طَبّق عليه قواعدَ الجرح والتعديل، يعرض لذلك كله ناقدًا إيّاه نقد الصيرفي الحاذق يعرف الصحيح من الغث، لا يخدعه بهرج ولا يغرّه طلاء.
* * *
وهو أحمد بن علي بن محمد بن علي بن محمود بن أحمد بن حجر الشافعي، العسقلاني الأصل، المصريّ المولد، القاهريّ الدار والنشأَة. ولد على أرجح الأَقوال في الثالث (١) والعشرين من شعبان سنة ٧٧٣ هـ (أول مارس ١٣٧٢ م)، واستقر أجداده في مصر التي انتقلوا إليها من عسقلان
(١) لم ينص ابن حجر على هذا اليوم في ترجمته التي كتبها لنفسه في كتابه: رفع الإصر عن قضاة مصر (ط. القاهرة) ص ٨٥ - ٨٨ ولكن الإجماع منعقد عليه عند من ترجموا له وعرضوا المولده.