وفي أول هذه السنة تلفت السلطان إلى المتجر بإغراء الخازندار له، فامر بتجهيز مال إلى جدة ليشتري له وحجر على الفلفل أن يشتري لغيره، وألزم جميع التجار أن لا يتوجه أحد ببضاعة إلى الشام ولا غيرها بل إلى القاهرة ولا يباع إلا بالإسكندرية بعد أن يكتفي السلطان، والزم الفرنج بشراء الفلفل بزيادة خمسين ديناراً عن السعر الواقع، فاشترى الفرنج شيئاً ورجعوا باكثر بضائعهم وما معهم ن النقد إلى بلادهم، فلم يحصل للسلطان مقصوده، وحصل على التجار من البلاء مالا يوصف، وتمادى الامر على ذلك ولا يزداد الأمر في سنة إلا شدة.
وفيه حجر على باعة الثياب البعلبكي والموصلي والبغدادي ثم بطل ذلك.
وفيه حجر على السكر مدة ثم بطل أيضاً.
وفي شهر ربيع الآخر عقد مجلس عند كاتب السر اجتمع فيه القضاة ومشايخ العلم بسبب أن السلطان اشترى من وكيل بيت المال أرضاً ثم وقفها، وثبت ذلك عند الشافعي ونفذه الباقون إلا الحنفي فادعى أن الحكم باطل، واستند إلى أن علم الدين ولد شيخنا البلقيني ذكر له البطلان، ووافقه بعض نواب الحكم من الشافعية المنفصلين، وكان القائم في امر الشراء المذكور ناظر الجيش، فامر كاتب السر أن يستفتي علماء الشافعية في ذلك، فأفتوا بالجواز إلا القمني والعلم، فلما حضروا وقع البحث في ذلك، فرجع القمني وقال: إذا استوفى الحاكم الشروط صح البيع، وكان قبل ذلك كتب بأن البيع لا يصح وأطلق، وأما العلم فاعتل بأنه يلزم من ذلك اتحاد الموجب والعابل وذلك لا يختص كما يتعاطى الجد لحفيده، وأن وكيل بيت المال وكيل السلطان فإذا اشترى السلطان من وكيله فكأنه اشترى من نفسه، وفاته ما صرح به جماعة من العلماء بأن وكيل بيت المال وكيل عن الجهة للمسلمين لا عن خصوص السلطان، وإنما وظيفته ولاية لا نيابة وقد صرح بذلك السبكي وغيره؛ ثم ظفرت بأن ذلك صنع للسلطان صلاح الدين في وقف الصلاحية ببيت المقدس ونقله السبكي في فتاويه، وقال الأذرعي في شرح المنهاج: اغتر بعض الناس بتسميته وكيلاً فقال: إنه ينعزل بموت السلطان، هو غلط، ثم أحضر حكم الدين البلقيني في مثل ذلك وكذلك من قبله أبو البقاء وعز الدين ابن جماعة، فاصر على دعوى البطلان وأصر الحنفي على الامتناع ن التنفيذ اعتماداً على قول المذكور مع قصوره في الفهم ونزارة ما عنده من العلم، ثم حملته العصبية على أن اجتمع بالسلطان وعرفه أن البيع باطل وأن الشافعية راعوا القاضي الشافعي فوافقوه فيما عمل، فأمرهم بالاجتماع عنده فحضروا يوم الاثنين ثامن الشهر المذكور، فبدا الشافعي فسأل الحنفي: لم امتنعت من تنفيذ هذا الحكم؟ فقال: لأن الشافعية قالوا إنه باطل فوقفته على فتاوي الشافعية فاسند الامر للقمني وللعلم فوقفته على فتوى القمني الثانية فقال: هذا لا يعتمد عليه لأنه تناقض، فسئل العلم في المجلس عن مستنده في دعوى البطلان فقال: نص الشافعي في عيون المسائل أن الوالي في رعيته بمنزلة الوصي في مال اليتيم، فسئل ما وجه الدلالة من هذا النص لصورة المسألة، فخلط في جوابه وانتقل فأخرج له نص الشافعي في مختصر المزني بأن المراد بذلك فيما يتعلق برعاية المصلحة للجهتين فكابر، فرد عليه من حضر وقالوا: إذا كان الكلام مطلقاً وذكر له في موضع آخر قيد وجب الحمل عليه وعمل بالخاص، ثم استظهر الشافعي بأن للسلطان أن يقف ما يراه من أراضي بيت المال على من يراه، وأن الوصي ليس له ذلك في مال اليتيم، فدل على أن النص ليس على عمومه، فاستمر على العناد فبان للجماعة قصوره وتعصبه. وأما الحنفي فتبين له أن لا حجة للقمني والعم فأصر على التعصب وقال: لا يجب على التنفيذ وكأنه خشي أن ينفذ في الحال فيقال إنه غلب فجنح إلى هذا العذر، وانفصل المجلس على ذلك؛ وسئل علماء الحنفية عن ذلك فقالوا: بل يجب على الحاكم إذا اتصل به حكم غيره وسأله صاحب الحق التنفيذ أن يفعل، وممن كتب بوجوب ذلك عليه وإثمه إذا لم يفعل التفهني وابن الديري ونظام الدين السيرامي وصدر الدين ابن العمي وعبد السلام البغدادي وكمال الدين ابن الهمام بدر الدين القدسي وأمين الدين الأقصر أي والقاضي المالكي والقاضي الحنبلي، فيما بلغه ذلك استفتى فما إذا حصلت عند العجمي ريبة في الحكم هل يجب عليه أن ينفذه مع الريبة، فطافوا بها فلم يكتب عليها أحد، فأشير عليه بأن يرجع وينفذ، فآل الأمر إلى أن نفذ الحكم بعد ذلك في السادس عشر من الشهر المذكور.
وفي اواخر شهر ربيع الآخر قدم فيروزمن المدينة وخلع عليه بعد أيام وعاد إلى مكانه، وزاد تمكناً بحيث اقتصر السلطان من القدماء عليه وعلى التاج الوالي وولي الدين ابن قاسم وأحمد الأحدب الشامي ومراد العجمي - هؤلاء قدماء الحضرى، ومن طرأ عليهم من غيرهم مقتوه إلىأن يخرجوه.
وفي يوم الاثنين مستهل جمادى الآخرة استقر شهاب الدين أحمد ابن محمد بن صلاح المعروف بابن المحمرة وبابن السمسار في قضاء الشام عوضاً عن أبي البقاء ابن حجي، وبقيت بيده مشيخة سعيد السعداء وتدريس الشيخونية وغير ذلك من جهاته بالقاهرة، فاستناب فيها وسافر في رجب
وكان السلطان طلب العلم البلقيني وفوض إليه قضاء الشام فامتنع وقال: أنااوثر به وجه السلطان في هذا الشهر مرة علىهذا، فقال له: قد بعث النبي صلى الله عليه وسلم معاذاً إلىاليمن فلم بعتذر بمثل هذاّ فتعجب من حضر من استحضاره هذه القصة المناسبة، ولم يؤثر ذلك في العلم لشوقه إلى العود بالقاهرة، فلما استقر ابن المحمرة أرسل له السلطان محقة وأذن له أن يستنيب في وظائفه بالقاهرة. وفه استقر جمال الدين يوسف ابن الصفي الكركي في نظر الجيش بدمشق عوضاً عن الشريق شهاب الدين، واستقر شمس الدين محمد بن علي بن عمر الصفدي في قضاء الحنفية بدمشق عوضاً عن القاضي شهاب الدين ابن الكشك نقلاً من القضاء بطرابلس، واستقر في قضاء طرابلس ولد الصفدي المذكور.
وفي ليلة الخميس ثاني عشر جمادى الآخرة هبت ريح بالتراب برقة الأهواء، فأثارت منه ما ملأ البيوت وكاد الناس يهلكون من الغم وأصبح الجو أصفر.
وفي ليلة النصف خسف القمر ولم يشعر به أكثر الناس.
وفي ثالث شعبان استقر نظام الدين عمر بن القاضي تقي الدين إبراهيم ابن الشيخ شمس الدين محمد بن مفلح في قضاء الحنابلة بدمشق عوضاً عن القاضي شهاب الدين ابن الحبال، وكان ابن الحبال قد ضعف بصره حتى قيل إنه عمي وقوي صمعه وضعفت قوته، فلما استقر نظام الدين وبلغه ذلك تحول إلى بلده طرابلس، فأقام بها إلى أن مات في السنة المقبلة.
وفي شعبان هجم جماعة من المماليك بيت الوزير فنهبوا، وكانت كائنة شنيعة؛ وفيه اشتد فساد المماليك الجلب وأفسدوا حتى منع السلطان الناس عن العمل إلا عن أمره إشفاقاً عليه، وسار الامراء إلى خرت برت فأوقعوا بمن فيها. وفيه وقع الوباء بدرندا. وفيه قدم نائب الشام سودون من عبد الرحمن وقدم معه كاتب السر ابن البارزي ثم رجعا على وظيفتيهما، وسار بعدهم العسكر المجهز إلى البلاد الحلبية وهم: الحاجب الكبير والدويدار الكبير وغيرهما، ومعهم من الطبلخانات والعشراوات جماعة ومن المماليك السلطانية أربعمائة نفس، فوصلوا إلى حلب وأقاموا بها لحفظها من التركمان، ثم وقعت لهم مع التركمان وقعة قتل فيها ولد لقرايلك صاحب تلك البلاد، وصادف وصول الخبر بذلك يوم وفاء النيل، فحصل للناس بذلك بشران، وشاع أن قرا يلك مات ثم تبين كذب الإشاعة. وفيها قدم بيرم التركماني صاحب هيت فاراً من أصبهان من قرا يوسف، فأكرمه السلطان واجرى له راتباً ثم أقطعه ناحية من الفيوم. وفيها في رجب استقر سودون من عبد الرحمن أتابك العساكر نقلاً من نيابة الشام، واستقر في نيابة الشام جارقطلي عوضاً عنه.
ذكر من مات
في سنة ٨٣٢ من الاعيان
أحمد بن إبراهيم بن أحمد بن أبي بكر بن عبد الوهاب، المرشدي المكي أخو محمد وعبد الواحد، ولد سنة ستين وسبعمائة، وسمع من عبد الرحمن بن عل التغلبي ابن القارئ جرء ابن الطلابة أنا الأبرقوهي، ومن محمد بن أحمد بن عبد المعطي صحيح ابن حبان أنا الرضي والصفي الطبريان، ومن عبد الله بن أسعد اليافعي صحيح البخاري، ومن عز الدين ابن جماعة من مناسكه الكبرى - ومن غيرهم،