والحالة الثانية: حال السوق إلى موضع الحساب، وهم أيضا في هذه الحال بحواس تامة، لقوله ﷿: ﴿* اُحْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ وَما كانُوا يَعْبُدُونَ * مِنْ دُونِ اللهِ فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ * وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ﴾ [الصافات: ٢٢ - ٢٤] ومعنى فاهدوهم؛ أي: دلّوهم، ولا دلالة لأعمى أصم، ولا سؤال لأبكم، فثبت بهذا أنهم يكونون بأبصار وأسماع وألسنة ناطقة.
والحالة الثالثة: وهي حالة المحاسبة، وهم يكونون فيها أيضا كاملي الحواس، ليسمعوا ما يقال لهم، ويقرءوا كتبهم الناطقة بأعمالهم، وتشهد عليهم جوارحهم بسيئاتهم فيسمعوها، وقد أخبر الله تعالى عنهم أنهم يقولون: ﴿ما لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاّ أَحْصاها﴾ [الكهف: ٤٩] وأنهم يقولون لجلودهم:
﴿لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا﴾ [فصلت: ٢١] وليشاهدوا أحوال القيامة وما كانوا مكذبين في الدنيا به من شدتها وتصرف الأحوال بالناس فيها.
وأما الحالة الرابعة: وهي السوق إلى جهنم؛ فإنهم يسلبون فيها أسماعهم وأبصارهم وألسنتهم، لقوله تعالى: ﴿وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ﴾ [الإسراء: ٩٧] ويحتمل أن يكون قوله تعالى: ﴿يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ﴾ [الرحمن: ٤١] إشارة إلى ما يشعرون به من سلب الأبصار والأسماع والمنطق.
والحالة الخامسة: حال الإقامة في النار، وهذه الحالة تنقسم إلى بدء ومآل، فبدؤها أنهم إذا قطعوا المسافة التي بين موقف الحساب وشفير جهنم عميا وبكما وصما إذلالا لهم، تمييزا عن غيرهم، ثم ردت الحواس إليهم ليشاهدوا النار، وما أعد الله لهم فيها من العذاب، ويعاينوا ملائكة العذاب وكل ما كانوا به مكذّبين، فيستقرون في النار ناطقين سامعين مبصرين، ولهذا قال الله تعالى: ﴿وَتَراهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْها خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ﴾ [الشورى: ٤٥] وقال: ﴿وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النّارِ فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الأنعام: ٢٧] وقال: ﴿كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها حَتّى إِذَا اِدّارَكُوا فِيها جَمِيعاً قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ﴾ إلى قوله: ﴿وَقالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْراهُمْ﴾ [الأعراف: ٣٨، ٣٩]. وقال: ﴿كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ * قالُوا بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنا وَقُلْنا ما نَزَّلَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ﴾ [الملك: ٨، ٩]. وأخبر تعالى أنهم ينادون أهل الجنة فيقولون: ﴿أَفِيضُوا عَلَيْنا