المكذبين ﴿إِنْ هُمْ إِلاّ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً﴾ [الفرقان: ٤٤]. ولو كان عندها عقل أو فهم؛ ما نزل بالكافر الفاسق إلى درجتها في موضع التنقيص والتقصير، والله سبحانه قد وصفه بالموت والصمم في موضع التبصير والتذكير، فقال: ﴿وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ﴾ [النمل: ٨٠] وقال: ﴿أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ﴾ [الزخرف: ٤٠]. ﴿صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ﴾ [البقرة: ١٨].
قيل له: ليس الأمر كما ذكرت، ولا الحق على شيء مما زعمت، وأنه ليس عليك من حيث الزعم ورؤية النفس في درجة العلم أبدا من الآية التي وقفت فيها إلى التي قبلها، إن شئت فارجع بصرك في الذي رأيت تجده قد وصفهم ﷿ بالموت والصمم، كما وصفهم بالعمي والبكم، وليسوا في الحقيقة الظاهرة بموتي ولا صم ولا بعميان ولا بكم، وإنما هو أموات بالعقول والأذهان عن صفة الإيمان، وحياة دار الحيوان، صم عن كلمة الأحياء، عمي عن النظر في مرآة وجوه الأخلاء، كذلك وصف الأنعام بضلال، وليست في الحقيقة بضلال من حيث شرعتها وحكمتها، وإنما ذلك من حيث قد كنا وافقنا، فكيف يكون ذلك والله تعالى يقول: ﴿وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ﴾ إلى قوله: ﴿يُحْشَرُونَ﴾ [الأنعام: ٣٨]. فو ربّك لنحشرنهم جمّا غفيرا ولنحاسبن حسابا يسيرا، ﴿وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اِخْتِلافاً كَثِيراً﴾ [النساء: ٨٢] وأنه تعالى لا يسأل إلا عاقلا، ولا يحاسب إلا مفضولا وفاضلا. وإنما جعل لكل موجود من موجوداته في أشتات الخلائق وأجناس العوالم دار دنيا ودار أخرى، وجعل لها أفلاكا وآفاقا وظلما وأضواء، فكلّ في فلكه وأفقه بليله ونهاره وسمعه وبصره وعلمه وفهمه، وحاكم من عقله أو جهله، وقائم بنحلته وحكمته وسنته وشرعته، فأدنى وأعلى من الروحانية الأقصى إلى الجمادية الأقسى، فالملائكة الروحانية في مصافها ترانا من حيث لا نرى، وتعلم منا أكثر مما نعلم، وإنها لتشاهد من نقصنا وقلة عقلنا في الموضع الذي يجب العلم به وإعمال العقل فيه؛ ما تحكم به علينا أكثر مما نحكم به على الأنعام من قلة العقل وتحقيق المعرفة، فمن نظر إلى الأنعام وجدها من حيث نحن لا من حيث فلكها وأفقها؛ لا تسمع ولا تعقل إلا حيزا ما؛ قدر ما تتسخر به وتتذلل طبعا، فتلقن المراد منها من هذا الفن خاصة لا غير، وأما ما نحن بسبيله من تصرفات وتعملات فليس لها ذلك من حيث الفلكية التي أحازتها عنا، والأفقية التي اقتطعتها منا، فهي في طرقاتنا ضلاّل، وبتعملاتنا وأحوال تصرفاتنا جهال، وأما من حيث شرعتها وباطن رؤيتها فعارفة عقال، قال رسول الله ﷺ حين أخذ الجمل القضم الذي ند وامتنع بحائط بني النجار، وغلب الخلق عن أخذه والوصال إليه، حتى جاء ﷺ