[ما ذكر عن الطحاوي من وصف الله بألفاظ محتملة وصحة نسبتها إليه]
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال الإمام الطحاوي رحمه الله تعالى: [فإن ربنا جل وعلا موصوف بصفات الوحدانية، منعوت بنعوت الفردانية، ليس في معناه أحد من البرية، وتعالى عن الحدود والغايات، والأركان والأعضاء والأدوات، لا تحويه الجهات الست كسائر المبتدعات] .
قوله رحمه الله: (تعالى عن الحدود والغايات، والأركان والأعضاء والأدوات، لا تحويه الجهات الست كسائر المبتدعات) قال بعض الشراح: إنها مما أدخل على المؤلف، وليست من كلامه، وذلك أن الطحاوي رحمه الله سائر في باب الأسماء والصفات على عقيدة أهل السنة والجماعة، فلم يقرر في هذه العقيدة شيئاً يخالف ما عليه سلف الأمة مما يتعلق بالأسماء والصفات.
وما ذكره في هذه الجملة ليس من منهج أهل السنة والجماعة، فإن أهل السنة والجماعة سائرون في هذا الباب على ما جاء في الكتاب والسنة، فلا يصفون الله إلا بما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله، كما أنهم لا ينفون عن الله إلا ما نفاه الله عن نفسه أو نفاه عنه رسوله، والمؤلف رحمه الله في هذا المقطع نفى عن الله عز وجل الحدود والغايات والأركان والأعضاء.
وإذا طلبنا هذا في كتاب الله، وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وفي كلام السلف الصالح لم نجد له ذكراً، فإن هذا مما أحدث بعد القرون المفضلة، ولم يكن عليه سلف الأمة، ولقائل أن يقول: لماذا تنكرون هذه الألفاظ مع أنها توحي للسامع التعظيم ويفهم منها تعظيم الرب جل وعلا؟ نقول: إن هذه الكلمات قد يظهر منها التعظيم إلا أن أهل الكلام الباطل المنحرفين عن طريق أهل السنة والجماعة يستعملونها في نفي ما دل عليه الكتاب والسنة، فقولهم: (تعالى عن الحدود) ينفون به الاستواء والعلو و (تعالى عن الغايات) ينفون به الحكمة، فيقولون: ليس لأفعال الله غاية ولا حكمة، ويقولون: الغاية إنما تكون للمحتاج، أما الله فهو الغني عن الغايات، وينفون بالأركان والأعضاء والأدوات ما أخبر الله به عن نفسه من أن له وجهاً جل وعلا كما في قوله: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:٢٧] ونحو ذلك من الآيات التي فيها إثبات الوجه.
وكذلك ينفون عنه بهذا الكلام ما أخبر به عن نفسه من أن له يداً كما قال تعالى: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص:٧٥] {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة:٦٤] وما أشبه ذلك.
فهم يأتون بهذه الألفاظ المجملة المبهمة التي تحتمل معنىً صحيحاً وتحتمل معنىً باطلاً، ويستعملونها في رد ما دلت عليه النصوص من إثبات صفات الكمال للرب جل وعلا.
وينفون بقولهم: (لا تحويه الجهات الست) العلو، ولذلك كان عقد أهل السنة والجماعة في هذا من أفضل ما يكون، حيث إنهم لا يثبتون هذه الألفاظ المجملة المبهمة ولا ينفونها، يعني: لا نثبت ولا ننفي؛ لأن الإثبات يحتاج إلى دليل، كما أن النفي يحتاج إلى دليل، لكننا نستفصل، ومعنى نستفصل: نطلب التفصيل من أصحاب هذه الأقوال، فنثبت المعنى الصحيح من أقوالهم، ونرد المعنى الفاسد، المنبني على الألفاظ المبتدعة، فلا نقول: تعالى عن الحدود والغايات وما أشبه ذلك من الألفاظ التي يقولها هؤلاء؛ لأن نفيها نفي لما لم يأت في الكتاب والسنة نفيه، وإثباتها كذلك مشكل؛ لأنها محتملة مبهمة.
فإذاً: قاعدة أهل السنة والجماعة في الألفاظ المبهمة المجملة: أنهم يستفصلون، أي: يطلبون من المتكلم بهذه الكلمات التفصيل، فإذا استفصلوا نظروا في المعاني الصحيحة فأثبتوها، ونظروا في المعاني الباطلة فردوها، وهذا منهج يسلم به الإنسان من أن يتورط في ألفاظ ظاهرها التعظيم للرب جل وعلا، وباطنها نفي ما أثبته الله لنفسه أو أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم.
ولذلك نجد في تعليق شيخنا عبد العزيز بن باز رحمه الله المكتوب والمسموع إنكار هذا الكلام، بل إنه في التسجيل الذي علق فيه على العقيدة الطحاوية رحمه الله قال: إن هذا الكلام رديء، ولكنه محمول على معنىً صالح فيما ذكره المؤلف؛ لأن المؤلف رحمه الله من أهل السنة والجماعة، وكلامه يفسر بعضه بعضاً، فما أجمله في هذا المكان يفسره في هذه العقيدة التي بين فيها إثبات ما أثبته الله لنفسه من الصفات.
والمعاني الصحيحة التي تحتملها هذه الألفاظ مرادهم في قوله: (تعالى عن الحدود) أي: تعالى عن أن يحده عقل بشر، فهو سبحانه وتعالى غير محدود، أي: لا تحيط به عقول عباده، كما قال الله جل وعلا: {وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} [طه:١١٠] ، والغايات أي: النهايات، فالله جل وعلا الكبير المتعال الذي لا تحيط به عقول عباده.
مما ينفى أيضاً من المعاني الصحيحة التي تنفى عن الله عز وجل بهذا اللفظ الغاية التي يحتاجها، فهو سبحانه وتعالى الغني عن عباده كما قال الله جل وعلا: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ} [الذاريات:٥٦-٥٧] فنفى الله سبحانه وتعالى عن نفسه الحاجة.
ونحن لا نريد أن نفصل في المعاني الصحيحة والمعاني الفاسدة التي تضمنتها هذه الجمل، لكن نقول: كل من تكلم بهذا الكلام ينظر إلى كلامه بالاستفصال؛ فما صح ثبت، وما لم يصح من المعاني رد، هذا من حيث المعاني، أما من حيث الألفاظ فإننا لا نثبت ولا ننفي بل نتوقف فيها؛ لأن الألفاظ موقوفة على النصوص من الكتاب والسنة، فما ثبت بها ثبت، وما لم يثبت يرد.