ثم قال رحمه الله:[والله يستجيب الدعوات ويقضي الحاجات] .
الله جل وعلا هو الذي يجيب المضطر إذا دعاه، وما من داع يدعو الله جل وعلا إلا وهو موعود بالخير، قال جل وعلا:{وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}[غافر:٦٠] ، فأمر الله جل وعلا بالدعاء، ووعد بالإجابة، وهذا وجه قول المؤلف رحمه الله:[والله يستجيب الدعوات] ، لكن تنبه إلى أنه لا يلزم من الاستجابة حصول ما دعوت به، فالله جل وعلا عليم خبير، والله سبحانه وتعالى يعلم ما يصلح العبد، فقد يدعو العبد بما يرى صلاحه فيه، ويكون صلاحه في عدم حصول المطلوب، فيكون من الخير والبر والفضل والإحسان من رب العالمين إلى هذا العبد ألا يحقق له المطلوب، حتى وإن كان يظن أنه خير، ويعتقد أنه صلاح له، فالله عليم خبير لا يقدم لعبده إلا ما يصلحه.
ولذلك فما من داع يدعو إلا ويجد الثواب والأجر من رب العالمين هذا أولاً، أما تحصيل مطلوبه وتحقيق دعائه وطلبه فإن هذا ليس بلازم؛ فإن الله سبحانه وتعالى قد يجيبه إلى ما دعا ويعطيه ما سأل، وقد يمنعه ذلك، لكن إن منعه ذلك فإنه لا يخلو من أمرين: إما أن يدفع عنه من السوء نظير ما دعا، وإما أن يدخرها له في الآخرة، ولاشك إنه إن ادخرها له في الآخرة فهو أعظم إحساناً؛ لأن الإنسان في الآخرة أحوج ما يكون إلى الخير، وأحوج ما يكون إلى ما ينفعه؛ ولذلك ينبغي للمؤمن أن يحسن الظن بربه، وألا يظن بربه إلا الخير أجيب أم لم يجب، أعطي أم لم يعط؛ فإن الله سبحانه وتعالى إذا عامله العبد بهذا كان الله جل وعلا إليه سريعاً في الخيرات، قريباً في تحقيق المطالب، فمن تمام التسليم لرب العالمين أن يسلم العبد لله عز وجل، وأن يفوض إليه جل وعلا الاختيار في تحقيق الطلب أو عدم تحقيقه، ولا يمنع هذا من أن يلح العبد في دعائه وسؤاله وضراعته وتكرار المسألة؛ فإن الله سبحانه وتعالى أكثر من العبد، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:(ما من داع يدعو الله عز وجل إلا كان له إحدى ثلاث خصال: فإما أن يعطيه ما سأله، وإما أن يدفع عنه من الشر نظير ما سأل، وإما أن يدخرها له في الآخرة، قال الصحابة: إذن نكثر يا رسول الله! قال النبي صلى الله عليه وسلم: الله أكثر) ، أي: أكثر من العبد، فشأن الله تعالى يختلف، وشأن الله أعظم، فهو يتعرض لعباده بالمسألة، فهو جل وعلا الغني الكريم، وهو المتفضل المحسن على عباده، ولا حاجة به إلى أحد، وهو القيوم الصمد الذي تنزل به الحوائج {وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ}[محمد:٣٨] ، ومع ذلك ينزل إلى السماء الدنيا كل ليلة يقول:(هل من داع فأجيبه؟ هل من سائل فأعطيه؟ هل من مستغفر فأغفر له؟) ، وانظر إلى هذا التدرج، حيث يبدأ بالدعاء الذي يشمل كل سائل، سواء أكان يدعوه بسؤال، أم بغير سؤال، ثم ما هو أخف (هل من سائل فأعطيه) ، ثم ما هو أخف في المسألة:(هل من مستغفر فأغفر له) ، وهذا كله لبيان سعة الفضل، وعظيم المن، وعظيم العناية من رب العالمين بعباده، فالله سبحانه وتعالى يجيب الدعوات ويقضي الحاجات، لكن ذلك وفق ما تقتضيه رحمته وحكمته، فقد يكون من الحكمة والرحمة أن يمنع الله جل وعلا العبد ما سأل، لا بخلاً منه؛ فالله جل وعلا يده سحاء بالخير، ينفق في الليل والنهار، لا تغيض النفقة ما في يده، فإذا منعك فإنه لا يمنعك بخلاً فهو الغني الحميد، إنما يمنعك إصلاحاً وتربيةً، فإذا عامل العبد ربه بهذا فإنه سينشرح صدره لما يقع من إجابة أو عدمها، ثم يعلم أن ربه سبحانه وتعالى المقدم المؤخر الذي لا يقدم له إلا الخير، ولا يمنع عنه إلا الشر.
قال رحمه الله:[ويملك كل شيء ولا يملكه شيء] .
وهذا كالجواب على من دعا فلم يعط، وقطع شبهة البخل التي اتهم بها اليهود رب العالمين، وهو جل وعلا الغني الحميد، قال تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ}[فاطر:١٥] ، وقال تعالى:{وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ}[محمد:٣٨] ، وقال الله جل وعلا:{وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا}[المائدة:٦٤] ، ثم قال:{بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ}[المائدة:٦٤] ، فالمنع ليس لأنه لا يملك ما تسأل، إنما المنع لحكمة ورحمة، وليس فقط لحكمة إنما أيضاً لرحمة بالعبد؛ فإن الله يرحم العبد بمنعه، كما أنك ترحم الصغير -ولله المثل الأعلى- بمنعه من الرضاع، وهو يبكي ويصيح يريد الرضاع، لكن ترى أن مصلحته في منعه من الرضاع، فتمنعه لأنه إن شب على الرضاع لن تنفطم نفسه، بل سيبقى على هذا الذي لا يقيم بدنه، فإن الرضاع في السنتين الأوليين يقوم به البدن، لكن بعد ذلك إذا استقل بالرضاع واستمر عليه لا يمكن أن يقوم بدنه بالحليب، فكان من الرحمة أن تمنعه هذا، فذلك حال العبد مع ربه، بل الشأن أعظم، فالله جل وعلا أرحم بعبده من الوالد بولده.