للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[قبول العلم الموجود وترك طلب العلم المفقود من الإيمان]

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

قال الإمام الطحاوي رحمه الله تعالى: [فهذا جملة ما يحتاج إليه من هو منور قلبه من أولياء الله تعالى، وهي درجة الراسخين في العلم؛ لأن العلم علمان: - علم في الخلق موجود.

- وعلم في الخلق مفقود.

فإنكار العلم الموجود كفر، وادعاء العلم المفقود كفر، ولا يثبت الإيمان إلا بقبول العلم الموجود، وترك طلب العلم المفقود] .

قال المؤلف رحمه الله تعالى في سياق كلامه عن القدر: (فهذا جملة ما يحتاج إليه من هو منور القلب) .

(هذا) يعني: ما تقدم تقريره من المسائل فيما يتعلق بالقدر، والذي تقدم تقريره سبق علم الله جل وعلا للأشياء، وتقدم أيضاً أن القدر سر الله في خلقه، وأنه قد منع الله جل وعلا من التعمق والنظر فيه؛ لأن ذلك من أسباب الخذلان والحرمان والطغيان.

ثم قال رحمه الله: (فهذا جملة ما يحتاج إليه من هو منور قلبه) وإنما يحصل النور في القلب من القرآن الكريم، فهو النور الذي يفرق الله به بين الحق والباطل، قال الله جل وعلا: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ} [الأنعام:١٢٢] ، فالقرآن نور وروح، فكلما عظم في قلب العبد هذا النور تبددت الشبهات، وانقشعت الظلمات، وزالت كل المكدرات، وكلما خفي هذا النور كلما التبس الأمر على الإنسان، وضل وأصيب بالحيرة والوسوسة والتيه والاضطراب والتناقض، كما قال الله جل وعلا: {بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ} [ق:٥] ، والله سبحانه وتعالى بعث محمداً صلى الله عليه وعلى آله وسلم بالهدى ودين الحق ليخرج الناس من الظلمات إلى النور، والنور الذي أخرجهم إليه هو نور النبوة والقرآن.

فمنور القلب هو من اقتصر على ما في القرآن واكتفى به، ومنور القلب هو الذي لم يجاوز ما جاء في القرآن والسنة في هذا الباب، ولم يدخل في هذا الأمر بعقله ولا برأيه الفاسد، بل اقتصر على ما جاءت به النصوص.

وقوله رحمه الله: (وهي درجة الراسخين في العلم) أي: إدراك ما تقدم درجة الراسخين في العلم، فليس الرسوخ في العلم التعمق فيما منع الله عز وجل العباد من النظر فيه، إذ يظن بعض الناس أن الرسوخ في العلم هو أن يتعمق الإنسان في مثل هذه الأمور وأن يبحث وأن يطيل النظر، وأن يكرر الكلام فيما حظر ومنع من الكلام فيه، ويظن ذلك تحقيقاً ورسوخاً، وهو مزلة عن الطريق المستقيم، ومضلة يضل بها عن سبيل الله القويم.

فالواجب على المؤمن، وعلى من نصح نفسه أن يقتصر على ما في الكتاب والسنة في هذا الباب، وأن لا يجاوزه؛ فإنه نور القلب وهو درجة الراسخين في العلم.

ثم قال رحمه الله في تعليل أن هذا هو المطلوب، وهذا هو الكفاية، وأنه لا حاجه للناس في طلب المزيد والنظر والتعمق في مسائل القدر: (لأن العلم علمان: علم في الخلق موجود) وهو علم الشريعة مما جاء به النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في القرآن والسنة، (وعلم في الخلق مفقود) وهو علم الغيب، ومن جملته علم الأقدار، فإن الله جل وعلا غيّب عن الخلق الأقدار، فلم يطلع أحداً على ما في اللوح المحفوظ، وهو ما رقم فيه، وكتب ما كان، وما سيكون، لم يطلع عليه ملكاً مقرباً، ولا نبياً مرسلاً: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا} [الجن:٢٦-٢٧] ، كل هذا احتياط، يعني: حتى ما يظهره الله جل وعلا للأنبياء من غيبه في غاية الاحتياط لهذا الغيب، حيث جعل من يرصد ما يقوله النبي ويحصي ما يبلغه لئلا يضل أو يزيد أو ينقص.

فعلم الغيب علم مفقود، وهو المشار إليه في قوله: (وعلم في الخلق مفقود) .

ثم قال رحمه الله: (فإنكار العلم الموجود كفر) إنكار علوم الشريعة كفر، فمن قال: إن الله لا يعلم ما الخلق عاملون فإنه كافر بالله العظيم؛ لأن الله جل وعلا أخبر في كتابه أنه بكل شيء عليم، وأنه يعلم ما الخلق عاملون: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات:٩٦] وهو بكل شيء عليم جل وعلا.

(وادعاء العلم المفقود كفر) ادعاء علم الغيب كفر: {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} [النمل:٦٥] لا يعلمون متى يبعثون، {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} [لقمان:٣٤] فالله جل وعلا أحاط بكل شيء علماً.

فالعلم عنده سبحانه وتعالى كما قال: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ} [الأنعام:٥٩] سبحانه وتعالى، فمن ادعى علم الغيب كذب القرآن، ولذلك قال المؤلف رحمه الله: (وادعاء العلم المفقود كفر) .

ثم قال رحمه الله: (ولا يثبت الإيمان إلا بقبول العلم الموجود) لا يثبت الإيمان، ولا تقر القدم على الإيمان إلا بقبول العلم الموجود قبولاً مجملاً، قال الله جل وعلا: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:٦٥] فقوله: {وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:٦٥] هو القبول، فيقبل ذلك قبولاً لا منازعة فيه.

يقول رحمه الله: (وترك طلب العلم المفقود) لا إشكال فيه؛ لأن العلم المفقود لا سبيل إلى تحصيله، فالغيب لا طريق إلى تحصيله إلا من طريق النبوة، فكل من زعم بأن له طريقاً يوصله إلى ما غاب وخفي من علم الله عز وجل فقد كذب بالقرآن، فالواجب عليه أن يترك ذلك، ولا يثبت إيمانه إلا بذلك.

<<  <  ج: ص:  >  >>