ثم قال رحمه الله:(وسبيل الحق بينهما لأهل القبلة) سبيل أي: طريق، والحق ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم فإنه قد جاء بالهدى ودين الحق، سبيل الحق بينهما أي: بين هاتين الضلالتين بين الأمن واليأس، فإنه ينبغي للمؤمن أن يستصحب فضل الله ورحمته وواسع كرمه وعظيم جوده، فإن الله سبحانه قال عن نفسه:{إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ}[النجم:٣٢] وينبغي -أيضاً- أن يستصحب أن الله شديد العقاب كما قال الله جل وعلا:{نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمُ}[الحجر:٤٩-٥٠] ، فإذا أدرك العبد مجموع ذلك في قلبه حمله على الطاعة وترك المعصية، والتعبد لله عز وجل على أكمل حال؛ لأنه يرجو فضل الله إذا أحسن، ويخاف عقابه إذا أساء، وهذان لا يجتمعان للإنسان إلا بالرجاء والخوف، وهو ما يشير إليه المؤلف رحمه الله في قوله:(وسبيل الحق بينهما) أي: بين الرجاء والخوف، فإذا جمع الإنسان بين هذين وفق إلى الخير، وسلم من الشر، ووقاه الله شر الاعتماد على أحد هذين الأمرين، وقد اختلف العلماء رحمهم الله في الخوف والرجاء أيهما يغلب على أقوال: أصحهما: أنه يختلف هذا باختلاف حال الإنسان، وإن كان الأصل أن يستوي الخوف والرجاء، والأصل أن يستوي الخوف والرجاء كما قال سبحانه وتعالى:{نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمُ}[الحجر:٤٩-٥٠] ، وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم للرجل الذي دخل عليه في حال الاحتضار، فقال له:(كيف تجدك؟! قال: أجدني أرجو رحمة الله وأخاف ذنبي، قال: ما اجتمع في قلب عبد مثل هذا إلا أمنه الله مما يخاف، وأعطاه ما يرجو) فدل ذلك على أن الأصل استواء هذين.
ولكن قد يحتاج الإنسان إلى تغليب جانب من هذين لعارض، لحال أو لظرف اقترن، ومثال ذلك: قول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بربه) وهذا يدل على تغليب جانب الرجاء، ولكن من إحسان الظن بالرب أن يعلم العبد أن الرب يؤاخذ على السيئة، فإن من ظن أن الله لا يؤاخذ على السيئة لم يحسن الظن بربه، بل اغتر كما قال الله جل وعلا:{يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ}[الانفطار:٦] ، قال أحد المستهترين لما قرئت عليه هذه الآية: غرني به كرمه، وهذا لا ينفعه، فإن الكريم أخبر بأنه شديد العقاب.
فالواجب على المؤمن أن يسير إلى الله عز وجل بهذين الجناحين: الخوف والرجاء، فإذا جاء ما يقتضي تغليب جانب منهما غلبه، فالعاصي إذا غلب الرجاء استمر في عصيانه فنقول له: غلب الخوف حتى تنتهي عن معاصيك، والطائع إذا غلب الخوف قد يبلغ درجة اليأس فنقول له: غلب الرجاء في هذه الحال، لكن الأصل هو استواء هذين في قلب العبد؛ ولذلك ورد عن بعض السلف كالإمام أحمد وغيره: أن الخوف والرجاء بالنسبة للعبد كجناحي طائر، ومعلوم أن جناحي الطائر متقابلان تماماً، ولو حصل نقص في أحد الجناحين لاختل طير الطائر، بل لسقط.