[إثبات صفة الكلام لله جل وعلا]
قال رحمه الله: (وكلم الله موسى تكليماً) هذا فيه إثبات صفة الكلام لله عز وجل، وقد أثبت الله جل وعلا هذه الصفة إثباتاً واضحا ًبيناً حيث أكد ذلك بالمصدر (تكليماً) ، فهذا فيه تأكيد هذه الصفة، وقد ثبتت هذه الصفة بالكتاب والسنة والإجماع والعقل؛ ولذلك يثبت الكلام مثبتة الصفات الذين يخالفون أهل السنة والجماعة في إثبات الصفات، لكن إثباتهم للكلام فيه انحراف.
وعلى كل حال هم في الجملة أثبتوا صفة الكلام، لكنه كلام غير الذي يثبته أهل السنة والجماعة للرب، فإنهم أثبتوا كلاماً نفسانياً لا الكلام الذي يثبته أهل السنة والجماعة، ويعقله أهل اللغة، وقد تقدم شيء من الكلام على هذه الصفة.
والمقصود: أن الله سبحانه وتعالى أخبر في كتابه أنه كلم موسى، وهذا التكليم هو غاية ما خص الله سبحانه وتعالى به بني البشر، فإن الله سبحانه وتعالى ذكر مراتب الإيحاء فقال: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} وهذا الذي جرى لموسى {أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ} [الشورى:٥١] وهذه ثالث المراتب التي يكون بها الوحي ويكون عليها الوحي.
الذي جرى لموسى عليه السلام هو أن الله سبحانه وتعالى كلمه؛ ولذلك لم يذكر موسى في وجه التفضيل إلا وذكر الله امتنانه عليه بالكلام، فالله خص موسى بوصف لم يدركه أكثر الخلق، بل ما حصل له من هذه الصفة لم يدركه أحد، فهو من خصائصه، قال الله تعالى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء:١٦٤] فتأكيد التكليم بالمصدر فيه تأكيد الكلام، وفيه أنه تكليم عظيم اختص الله به موسى دون غيره من الرسل.
وأما نبينا صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقد كلمه الله في ليلة المعراج من غير رسول، أي: من غير واسطة، لكن مع هذا فالذي اختص به موسى فوق ذلك، ومعلوم أن إثبات الفضل في شيء معين لا يلزم التفضيل من كل وجه، فثبوت هذه الفضيلة لموسى عليه السلام لا يلزم منها أن يكون أفضل من النبي صلى الله عليه وسلم، بل النبي صلى الله عليه وسلم سيد ولد آدم، وهو أفضل الرسل صلى الله عليهم وسلم، وهو أفضل أولي العزم.
والذي اختص به موسى أمران: الأمر الأول: أن الله ابتدأ الوحي إليه بالتكليم مباشرة كما قال سبحانه وتعالى: {وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا} [مريم:٥٢] فذكر المناجاة، وقد جرت المناداة لغيره كما قال تعالى: {وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ} [الأعراف:٢٢] فقد جرت المناداة لغيره، لكن قال فيه: {وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً} [مريم:٥٢] ، وهذا لم يحصل لأحد، وهذا مما اختص الله به موسى، فالذي خص الله به موسى أنه ابتدأ الوحي إليه بالتكليم المباشر بخلاف غيره من الرسل فإن ابتداء الرسالة إليهم كانت بواسطة جبريل عليه السلام.
الأمر الثاني: مما اختص الله به موسى عليه السلام في التكليم أنه أعطاه من التكليم ما لم يعط غيره، كما قال تعالى: {وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا} فإن هذا لم يذكر لغيره.
فما خص الله به موسى من التكليم في صفة التكليم أمر لم يدركه أحد من النبيين؛ ولذلك قال الله جل وعلا: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إلى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا} [النساء:١٦٣] ثم قال: {وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء:١٦٤] فبعد أن ذكر الله جل وعلا الإيحاء الذي اشترك فيه النبيون والمرسلون ذكر ما اختص به موسى عليه السلام فقال -بعد ذكر الإيحاء العام-: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} .
فعلم من هذا أن ما خص الله به موسى مختلف عما أدركه أولئك حتى نبينا صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ومن المعلوم أن ثبوت الفضيلة الخاصة لا يلزم منها التفضيل من كل وجه، فإن الله عز وجل يصطفي من خلقه ما يشاء، كما قال سبحانه: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ} [القصص:٦٨] .