قال رحمه الله:[وجميع ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الشرع والبيان كله حق] ، وهذا من تمام الإيمان، بل هو الإيمان المجمل الذي يجب على كل أحد.
فالإيمان ينقسم إلى قسمين: إيمان مجمل، وإيمان مفصل، والمؤلف رحمه الله هنا أشار إلى الإيمان المجمل، وهو الإيمان بجميع ما صح عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، قال:[وجميع ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الشرع والبيان] يعني: من العمل والخبر، [كله حق] أي: ثابت لا مرية فيه، نصدق به ونؤمن، ونقر بما جاء به صلى الله عليه وسلم وننقاد له، ولا يتم الإيمان إلا بهذين الأمرين؛ فليس الإيمان مجرد التصديق للأخبار، بل لابد من الانقياد، فالإيمان إقرار مع انقياد، وليس إقراراً مجرداً، ولا تصديقاً مجرداً، على أن من عرّف الإيمان بالتصديق فتعريفه منقوص وقاصر، فإن الإيمان ليس تصديقاً مجرداً، بل هو تصديق خاص، حتى إذا قلنا: بأن الإيمان في اللغة يطلق على التصديق فهو تصديق خاص، ولا نريد أن ندخل في مباحث قد تطول، وإنما أردنا فقط أن نشير إلى أن تعريف من عرّف الإيمان بأنه التصديق غلط، والصواب أنه تصديق خاص، والعبارة الأصح أن نقول: هو التصديق المستلزم للقبول والإذعان والانقياد.
يقول المؤلف رحمه الله:[والإيمان واحد] هذا ثمرة من ثمار ما تقدم، فبناء على قوله: إن الإيمان هو الإقرار باللسان، والتصديق بالجنان، فكل من حصل منه هذا فقد حقق الإيمان، فالإيمان عند مرجئة الفقهاء واحد، وهذا هو محل النزاع بين المختلفين في مسألة الإيمان.
المشكلة في مسألة الإيمان في مسألة الأحكام والأسماء، ونعني بالأسماء: مسلم، كافر، فاسق، منافق، والأحكام كونه في الجنة أو في النار، والمشكلة في هذا الباب نشأت عن الخطأ في تصور الإيمان، فكل الضُلَّال في هذا الباب على اختلاف ضلالهم يعتقدون أن الإيمان واحد، وإذا كان واحداً فإما أن يثبت جملة، وإما أن ينخلع منه الإنسان جملة، ولا يمكن أن يتبعض.
وأهل السنة والجماعة عندهم الإيمان شعب وخلال كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:(الإيمان بضع وسبعون شعبة) فليس شيئاً واحداً، ومن قال: الإيمان شيء واحد.
فقد خالف دلالة الكتاب والسنة؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم ينفي الإيمان عن بعض أهل الإسلام فيقول:(لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن) فهذا نفي للإيمان، (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه) ، (والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، قالوا: من يا رسول الله؟ قال: من لا يأمن جاره بوائقه) ، والأحاديث في هذا الباب كثيرة، وكلها تدل على انتفاء الإيمان بسبب الإخلال ببعض الأعمال، أو الوقوع ببعض المعاصي والسيئات، فالنفي هنا ليس نفياً للإيمان بالكلية، ولو نفينا الإيمان بالكلية لخرج الإنسان عن دائرة الإسلام، وكان من أهل الكفر كما تقول الخوارج، أو كان في منزلة بين المنزلتين كما تقول المعتزلة، فليس بمؤمن وليس بكافر، ولكن الإيمان ليس واحداً كما قال المؤلف؛ ولذلك المرجئة قابلوا بدعة أولئك الذين أخرجوا من أخرجوا من الإسلام بسبب ارتكاب بعض السيئات، فقالوا: من كان مؤمناً مقراً بلسانه، مصدقاً بجنانه، فإنه مؤمن كامل الإيمان، إيمانه كإيمان جبريل، ولو كان يزني صباحاً ومساءً، أو يسرق صباحاً ومساءً، وحتى لو كان قلبه ممتلئاً بالكبر والحقد والحسد والغل وسائر الآفات، فهو مؤمن كامل الإيمان، لماذا؟ لأن الإيمان واحد، فإيمان أعصى العصاة من أهل الإسلام كإيمان جبريل، وهذا لا شك أنه كذب وخطأ، فالإيمان يزيد وينقص، وليس واحداً كما قال المؤلف رحمه الله.
يقول:(وأهله) يعني: أهل الإيمان (فيه) يعني: في الإيمان (سواء) يعني: مستوون، وفي نسخة أخرى:(وأهله في أصله سواء) ، والمقصود بأصله: في ثبوته وحصوله، فهم فيه سواء، وهذا خطأ، فإن الإيمان يزيد وينقص؛ ولذلك كان من عقد أهل السنة والجماعة: أن الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، فإن هذا ما يعتقده أهل السنة والجماعة في مسألة الإيمان.