ثم قال رحمه الله تعالى:(ولا إله غيره) معنى الإله: المعبود المألوه الذي تألهه القلوب محبة وتعظيماً ورقة، والإله في أصل كلام العرب: اسم جنس لما قصد بشيء من العبادة، لكنه غلب على الله جل وعلا؛ لأنه مستحق للعبادة، فما سمي من الإله دون الله سبحانه وتعالى إنما هو تسمية خالية من معناها، فإنه لا إله إلا الله، ولا معبود بحق إلا هو جل وعلا، وهذه الكلمة هي أصل الإسلام وأساسه، ولا يقر الإيمان، ولا يستقيم الإسلام، ولا يصلح حال أحد إلا بهذه الكلمة، فبها صلاح الدنيا والآخرة، وهي أول مطلوب وآخر مطلوب، وكونه أول مطلوب لأنه لا يدخل أحد الدين إلا بلا إله إلا الله:(أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله) .
وآخر مطلوب:(من كان آخر كلامه من الدنيا لا إله إلا الله دخل الجنة) فكانت لا إله إلا الله هي أول المطالب وما يخاطب به الناس، وهي آخر ما يندب الناس إليه ويطلب منهم، وذلك لعظم هذه الكلمة التي من أجلها أوجد الله جل وعلا الجن والإنس، قال الله سبحانه وتعالى:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}[الذاريات:٥٦] ولا تتحقق العبادة إلا بالإقرار بأنه لا إله إلا الله -لا إله غيره جل وعلا- والاستقامة على هذه الكلمة، والعمل بمقتضاها، فإن العبادة كلها مشمولة بهذه الكلمة داخلة فيها، ولذلك كان شأنها عظيماً، فإذا قالها الإنسان صادقاً من قلبه حرمه الله على النار، وكان من أهل الجنة.
فقول المؤلف رحمه الله:(ولا إله غيره) فيه إثبات إلهية الرب سبحانه وتعالى، فمعنى الكلمة لا إله إلا الله: لا معبود بحق إلا الله، لماذا احتجنا إلى تقدير (حق) ؟ حتى نخرج المعبودات الباطلة، ولو قلنا: لا معبود إلا الله لوقعنا في الإشكال، وهو وجود من يعبد غير الله، ألم يعبدوا الشمس والقمر والأصنام والملائكة والأنبياء؟ فهؤلاء عبدوا من دون الله، فهذا القيد ضروري لإخراج كل من عبد من دون الله وهو باطل، أيضاً لابد من هذا القيد؛ لأن الكلام بدون هذا القيد يفهم منه معنى باطل، وهو أن كل ما عبد من دون الله فهو إله حق.
فإذا قال قائل: لا معبود إلا الله.
تفهم منه أن كل من توجه إليه العبادة فهو إله ومعبود، وهذا المعنى هو ما كان يقوله أهل وحدة الوجود الذين جعلوا كل شيء معبوداً من دون الله، فالذي يعبد الصنم إنما يعبد الله، والذي يعبد الشمس إنما يعبد الله، والذي يعبد الملائكة إنما يعبد الله، والذي يعبد الكلاب والخنازير إنما يعبد الله، تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً، ومنه قول شاعرهم: وما الكلب والخنزير إلا إلهنا وما الرب إلا عابد في كنيسة فجعل كل معبود من دون الله إنما هو في الحقيقة يعبد الله، وهذا المعنى باطل، لكن الذين قالوا: لا معبود إلا الله ولم يقدروا (بحق) يقين أنهم لا يقصدون هذا القول، لكن لما كان يترتب على عدم التقدير معنى باطل احتجنا إلى تقدير (حق) فكلمة (حق) ضرورية لإخراج المعبودات من دون الله ولنفي ما يعتقده أهل وحدة الوجود من أن كل معبود في الأرض هو الله جل وعلا؛ لأن هؤلاء يعتقدون أن كل شيء تعبده أو كل شيء عبد من دون لله فهو على حق ولا تنكر على عبدة الأصنام ولا على عبدة الفروج ولا على عبدة الأحجار لأن هؤلاء إنما يعبدون الله عندهم، وهذا كذب وضلال وتحريف لدين رب العالمين.
لكن ما الدليل من الكتاب على هذا التقرير، (لا إله حق) ؟ الدليل قوله تعالى:{ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ}[الحج:٦] وقوله تعالى {فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ}[يونس:٣٢] فكل هذا يدل على وجوب تقدير (حق) ؛ لأن ما عبد من دونه فإنما يعبد من غير حق وبدون استحقاق.