[تحريم الخوض والمماراة والمجادلة في الله ودينه وكتابه]
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: قال الإمام الطحاوي رحمه الله تعالى: [ولا نخوض في الله، ولا نماري في دين الله، ولا نجادل في القرآن، ونشهد أنه كلام رب العالمين، نزل به الروح الأمين، فعلمه سيد المرسلين محمداً صلى الله عليه وعلى آله أجمعين، وهو كلام الله تعالى، لا يساويه شيء من كلام المخلوقين، ولا نقول بخلقه، ولا نخالف جماعة المسلمين] .
يقول رحمه الله: (ولا نخوض في الله) الخوض في أصل استعماله هو الولوج في الماء، ثم استعمل هذا اللفظ على كل دخول في الشيء على وجه باطل، فمراد المؤلف رحمه الله في قوله: (ولا نخوض في الله) أي: لا نتكلم فيما يتعلق بالله جل وعلا بالباطل وبغير الحق، وذلك إما أن يكون بسلوك طريق المتكلمين الذين سلكوا غير الصراط المستقيم فيما يتعلق بالله جل وعلا وأسمائه وصفاته وأفعاله، وإما أن يكون بالإعراض عما جاء في الكتاب والسنة من وصفه، فنقبل بعضاً ونرد بعضاً، فهذا -أيضاً- من الخوض.
ومن الخوض في الله جل وعلا والكلام الباطل فيه سبحانه وتعالى تكييف صفاته وتمثيلها، والبحث عن حقائقها وكيفياتها، فإن هذا من الخوض بالباطل؛ لأن هذا مما لا يجوز طلبه، ولا النظر إليه، ولا بحثه؛ لأن الله جل وعلا نهانا عن طلب ذلك والنظر فيه في قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:١١] ، وهذا خبر يتضمن معنى النهي عن طلب المثل، بل قال: {فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ} [النحل:٧٤] ، وقال: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:٢٢] ، وما أشبه ذلك مما يفيد النهي عن تمثيل الله عز وجل، وطلب الكيفيات لأفعاله وصفاته سبحانه وتعالى.
كل هذا يدخل في قول المؤلف رحمه الله: (ولا نخوض في الله) .
ومن ذلك: التفكر في ذات الله،
و
السؤال
كيف هو؟! وما أشبه ذلك مما يوقع الإنسان في الشك والريب، ولا يصل معه إلى علم ولا يقين؛ ولذلك جاء في الأثر: (تفكروا في آلاء الله، ولا تفكروا في ذات الله) .
وقد أمر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم المؤمن بكف سلسلة الوساوس المتعلقة بالله جل وعلا، فأخبر أن الشيطان يأتي إلى ابن آدم فيقول: من خلق هذا؟ فيقول: الله، من خلق هذا؟ فيقول: الله، من خلق هذا؟ فيقول: الله، ولا يزال به الشيطان حتى يقول: من خلق الله؟ وعند ذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فليستعذ بالله ولينته) فأمره بالاستعاذة؛ لأن هذا من الشيطان، والانتهاء أي: قطع النظر والخوض في هذا الأمر، فإنه مما يوقع الإنسان في المهالك ويورده المعاطب.
فالواجب على المؤمن ألا يخوض في هذه الأمور، ويقتصر على ما جاء في الكتاب والسنة، فإن فيها الكفاية في معرفة الله جل وعلا، والعلم به سبحانه وتعالى.
ومن رام زيادة على ما جاءت به النصوص في الكتاب والسنة فقد تكلف علم ما لم يكلف به، وزاد وغلا، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (هلك المتنطعون، هلك المتنطعون، هلك المتنطعون) ، ويدخل في هذا الخبر والدعاء الذين يتعمقون في أسماء الله وصفاته.
ثم قال رحمه الله: (ولا نماري في دين الله) (لا نماري) أي: لا نجادل، والمقصود بالمجادلة هنا: المجادلة بالباطل، أما المجادلة التي يحق بها الحق، ويظهر بها ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، وما كان عليه السلف الصالح فإنها مطلوبة؛ لأن بها يُخصم الخصم، ويُكبت المعاند، فالرد على المخالفين لطريقة أهل السنة والجماعة في الأسماء والصفات بالحجج، ومجادلتهم ومناقشتهم جرى عليه العلماء قديماً وحديثاً، وليس هذا من المراء في دين الله، فالمراء في دين الله أن يجعل الإنسان دينه عرضة للمجادلات والمناقشات، ومن أكثر المجادلة والمناقشة أكثر التنقل وضل؛ ولذلك لما قال أحدهم للإمام مالك: تعال أماريك، قال: (أنا قد عرفت ديني، فاذهب إلى شاك) أو كلمة نحوها، وهذا يدل على أن السلف رحمهم الله كانوا يوصدون الباب أمام كل هؤلاء المجادلين بالباطل، ويخوضون في دين الله بالظنون والأوهام والنوايا الفاسدة.
ثم قال رحمه الله بعد ذلك: (ولا نجادل في القرآن، ونشهد أنه كلام رب العالمين) هذا من التكرار الذي اتصفت به هذه العقيدة، يقول رحمه الله: (ولا نجادل في القرآن) أي: لا نخاصم في القرآن؛ لأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم نهى عن المخاصمة في القرآن، ويشمل هذا المخاصمة في تأويله وتفسيره، والمخاصمة في ضرب بعض آياته ببعض، ويشمل هذا -أيضاً- المخاصمة في القراءات، ويشمل هذا -أيضاً- المخاصمة فيه بالباطل بأن يقر به الإنسان باطلاً، ويبطل به حقاً، فإن هذا من المجادلة في القرآن التي نُهى عنها، كأن يستدل بالقرآن على المعاني الباطلة التي يريد أن يقررها ويحتج لها بالقرآن، وما من شخص يحتج بالقرآن على بدعة أو ضلالة قديمة أو حديثة إلا وفيما استدل به من القرآن ما يبطل دعواه، ويرد باطله.
إذا: ً قوله: (لا نجادل في القرآن) يشمل كل هذا، فالذين يختلفون في القراءات يدخلون في هذا، والذين يختلفون في المعاني ويتخاصمون يدخلون في هذا، والذين يضربون بعض القرآن ببعض يدخلون في هذا، والذين يخالفون ما دل عليه القرآن من أن القرآن كلام الله جل وعلا يدخلون في هذا من باب أولى، كشأن كل المخالفين لأهل السنة والجماعة في مسألة القرآن، وأنه كلام الله جل وعلا.