إذاً: عندنا في الميثاق قولان: القول الأول: ما جاء في حديث ابن عباس من أن الله أخذ على الناس الميثاق في عالم الذر فقال: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى}[الأعراف:١٧٢] ، وهذا القول اختاره شيخنا عبد العزيز بن باز رحمه الله تعالى، ونسبه ابن القيم إلى جماعة وطائفة من السلف والخلف.
القول الثاني: الذي اختاره شيخ الإسلام رحمه الله وابن القيم وابن كثير في تفسيره من أن الميثاق هو ميثاق الفطرة لضعف حديث ابن عباس؛ ولأن الآية ليس فيها ما يدل على ذلك، فإن الله عز وجل قال:{وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ}[الأعراف:١٧٢] ولم يقل: (من آدم) فالأخذ من بني آدم وليس من آدم، ولم يقل: من ظهره، بل قال:(من ظهورهم) ولم يقل: ذريته، بل قال:(ذريتهم) كل هذا يدل على أن الأخذ ليس ما جاء في حديث ابن عباس، وأن الأخذ هنا هو أخذ الميثاق عليهم حيث فطرهم جل وعلا منذ أوائل خلقهم، وهو خروجهم من آبائهم نطفاً إلى أرحام أمهاتهم فمن تلك اللحظة أخذ الله جل وعلا الميثاق عليهم بالفطرة التي قارنت خلقهم.
ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم:(كل مولود يولد على الفطرة) والفطرة التي ولد عليها هي الإقرار بالتوحيد للرب جل وعلا لو خلي من الموانع والشواغل والصوارف.
فإذا كان كذلك فما الجواب على قوله:{وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ}[الأعراف:١٧٢] ؟ يقول:(أشهدهم على أنفسهم) الشهادة على أنفسهم في القرآن يراد بها الإقرار، ولا يلزم في هذا النطق، بل الشهادة تكون حالاً ومقالاً.
فالشهادة على النفس معناها الإقرار أي: جعلهم مقرين بهذا الميثاق: {وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ}[الأعراف:١٧٢] أي: قررهم عليه، والشهادة لا يلزم منها التكلم، بل قد تكون الشهادة بالحال لا بالمقال، ومن ذلك قوله تعالى:{مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ}[التوبة:١٧] وهم شاهدون على أنفسهم بالكفر حالاً لا مقالاً، فإنهم لم يقروا بأنهم كفار، إنما شهادتهم شهادة حالية لا شهادة مقالية.
وكذلك قوله:{قَالُوا بَلَى}[الأعراف:١٧٢] القول قد يكون باللفظ، وقد يكون بالحال، وقد أطال شيخ الإسلام رحمه الله في درء تعارض العقل والنقل لتقرير هذا المعنى، وكذلك نقله ابن القيم في أحكام أهل الذمة، والمراد أن الآية ليس فيها دليل على ما ذكر في الميثاق السابق الذي جاء في حديث ابن عباس.
أما إخراج الذرية فقد جاءت فيه أحاديث كثيرة، لكن ليس منها صحيح يثبت أن الله كلمهم وخاطبهم، إنما فيها أن الله أخرجهم وميزهم إلى فريقين: إلى أهل السعادة وإلى أهل الشقاء، وهذا ليس فيه ذكر للميثاق، والأحاديث في هذا المعنى كثيرة، وهي ثابتة صحيحة، لكن الذي لم يصح هو تكليم الله لهم في ذلك الوقت وإخراجهم وأخذه الميثاق عليهم.
فقول المؤلف رحمه الله:(والميثاق الذي أخذه الله تعالى من آدم وذريته حق) يحتمل أن المؤلف رحمه الله تعالى أراد بالميثاق ما جاء في حديث ابن عباس، ويحتمل أنه يريد بالميثاق الفطرة، وهما قولان لأهل العلم كما سبق.