[رجاء دخول المؤمنين الجنة برحمة الله]
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد: فقال المصنف رحمه الله: [ونرجو للمحسنين من المؤمنين أن يعفو عنهم، ويدخلهم الجنة برحمته، ولا نأمن عليهم ولا نشهد لهم بالجنة، ونستغفر لمسيئهم، ونخاف عليهم، ولا نقنطهم.
والأمن والإياس ينقلان عن ملة الإسلام، وسبيل الحق بينهما لأهل القبلة.
ولا يخرج العبد من الإيمان إلا بجحود ما أدخله فيه.
] قوله رحمه الله: (ولا نقول: لا يضر مع الإيمان ذنب لمن عمله) تقدم أن هذا الكلام ينفي فيه المؤلف رحمه الله عقد المرجئة الغلاة الذين يقولون: لا يضر مع الإيمان ذنب مهما كان، ويعرِّفون الإيمان بأنه المعرفة، ولا شك أن هذا من أردى الأقوال في تعريف الإيمان، وفي هذا تجرئة لكل صاحب عصيان أن يقع فيما شاء من مخالفة الملك الديان؛ لأنه إذا كان لا يضر مع الإيمان ذنب فالإيمان لا يتأثر ولا ينقص ولا يتغير بما يرتكب الإنسان من الذنوب وما يواقع من السيئات، فإن هذا يحمل العاصي على الاستمرار في عصيانه، والتمادي في خروجه عن الصراط المستقيم، وقد تقدم الكلام على هذا.
ثم قال المؤلف رحمه الله: (ونرجو للمحسنين من المؤمنين) المحسنون من أهل الإيمان هم: الذين عبدوا الله كأنهم يرونه، فإن قصروا فهم يعبدون الله جل وعلا موقنين بأنه يراهم كما قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في تعريف الإحسان: (أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك) والمراد: أنهم عملوا بالطاعات، وانتهوا عن المعاصي والسيئات الظاهرة والباطنة، فهؤلاء نرجو لهم أن يعفو الله جل وعلا عنهم ما يكون منهم من التقصير والخطأ، فإنه مهما بلغ الإنسان في الإحسان فلابد وأن يكون عنده تقصير وإخلال مهما كان، حتى الأنبياء والرسل يكون منهم شيء من التقصير؛ ولذلك لا يأمن أحد على نفسه، ولا يجوز أن يأمن من مكر الله سبحانه وتعالى كما سيأتي في كلام المؤلف رحمه الله، بل يجب عليه أن يلاحظ ما معه من التقصير، وأن يراقب الله جل وعلا، وأن يخاف أن يؤاخذه سبحانه وتعالى بذنبه وسيئاته.
يقول رحمه الله: (ونرجو للمحسنين من المؤمنين أن يعفو عنهم) يعني: أن يعفو الله جل وعلا عنهم ما كان من التقصير، والعفو يتضمن الستر والتجاوز والصفح، فيستر عليهم ما كان من الذنوب، ويعفو ويتجاوز ويصفح عما كان من الذنوب.
قال: (ويدخلهم الجنة برحمته لا بعملهم) فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (واعلموا أنه لن يدخل أحداً منكم عمله الجنة، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟! قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني بالله برحمته) وهذا يوجب للإنسان عدم الاغترار بما يكون معه من الأعمال، مهما زكت، ومهما صلحت، ومهما كثرت، ومهما اجتهد في إتقانها فإنه إن لم تدركه رحمة الله جل وعلا فلا فلاح له ولا نجاح.
ومن توفيق الله ورحمته: أن يوفق الله جل وعلا العبد إلى العمل الصالح، فلا نجزم لأحد بفوز، ولا نقول: إنه من أهل الجنة كما قال رحمه الله: (ولا نأمن عليهم) أي: لا نأمن أن يغير الله حالهم، ولا نأمن أن يعاقبهم الله جل وعلا، فقد يغير الله حال المحسن إلى الإساءة، وقد يؤاخذ الله جل وعلا من ظاهره الإحسان بسيئ عمله، ومعلوم أن من أعمال القلوب التي لا تظهر للناس ما يكون سبباً لحبوط العمل مهما زكى وحسن.
فينبغي لأهل السنة ألا يأمنوا على أحد، ومن ذلك: ألا يأمنوا على أنفسهم، فإنه من أمن على نفسه مكر الله جل وعلا فإنه داخل في قوله تعالى: {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف:٩٩] ، وهذا نفي الأمن إلا من الخاسرين: {فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف:٩٩] أتى في تقرير ذلك بالنفي والإثبات الدال على أن كل من أمن من مكر الله فهو خاسر، ومكر الله جل وعلا يدرك العبد بسيئ عمله، فإن الله لا يظلم الناس شيئاً، فإذا تمادى الإنسان في معاصيه ولو كانت صغيرة، أو اغتر بعمله الصالح وأعجب به، ورأى لنفسه فضلاً على الناس وارتفاعاً وعلواً؛ فلا يأمن أن يؤاخذه الله بما في قلبه، فيفضحه ويسيء خاتمته، وهذا معنى حديث ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة -في بعض الروايات: فيما يرى الناس- حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها) .
فالواجب على المؤمن أن يحذر من الأمن من مكر الله، وألا يغتر بحاله الحاضرة، بل يكون على وجل مما يستقبل.