للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[اختلاف أئمة المذاهب في المذاهب الفقهية العلمية واتفاقهم في مسائل الاعتقاد]

قال رحمه الله: [على مذهب فقهاء الملة أبي حنيفة النعمان بن ثابت الكوفي وأبي يوسف يعقوب بن إبراهيم] إلى آخر ما قال.

قوله رحمه الله: (على مذهب فقهاء الملة) أي: أن هذه العقيدة التي ألفها رحمه الله وكتبها مستقاة مستفادة من أقوال فقهاء الملة؛ وسبب ذلك: أن من ذكرهم تميزوا عن غيرهم بالفقه من بين بقية العلوم، فـ أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد بن الحسن اشتهروا بين أهل العلم في القديم والحديث بالعناية بالفقه، والكتابة والتأصيل فيه، ولذلك ذكرهم بأخص ما اتصفوا به، وليس معنى هذا أنهم لا يتقنون إلا الفقه، فإنما أراد رحمه الله بيان أخص ما تميزوا به عن غيرهم من العلماء.

وقوله: (الملة) .

الملة: هي الطريقة، والمقصود بالملة هنا: ملة النبي صلى الله عليه وسلم، وهو ما يدين به صلى الله عليه وعلى آله وسلم وما جاء به من ملة إبراهيم عليه السلام، ومن هذا نعلم: أن أبرز ما يوصف به الإنسان أن يكون من علماء الملة؛ لأن العلماء ينقسمون إلى ثلاثة أقسام كما قال شيخنا محمد رحمه الله: - عالم ملة.

- وعالم أمة.

- وعالم دولة.

والذي ينبغي لطلبة العلم أن يسعوا لتحقيقه في أخلاقهم وأعمالهم أن يكونوا من علماء الملة الذين ينظرون إلى النصوص ويحكمونها في أقوالهم وعقائدهم وأعمالهم، ويدعون إليها ويعملون بها.

عالم الأمة: هو الذي ينظر إلى ما يشتهيه الناس وما يحبونه ويميلون إليه فيفتيهم بما يريدون وهذا مذموم؛ لأنه لا يدل الناس على الخير، إنما يدلهم ويجيبهم لما يحبون وما يشتهون.

ومثل هذا في السوء عالم الدولة: الذي ينظر إلى ما يشتهي أهل السلطة فيقول بقولهم.

والواجب على أهل الإيمان أن يكونوا من علماء الملة الذين ينظرون إلى قول الله وقول رسوله، ولا يقدمون عليهما لا شهوة الأمة ولا شهوة غيرهم بل يعملون بكتاب الله وسنة رسوله.

ذكر في هذه العقيدة ثلاثة علماء هم: أبو حنيفة النعمان بن ثابت الكوفي رحمه الله.

وأبو يوسف يعقوب بن إبراهيم الأنصاري.

وأبو عبد الله محمد بن الحسن الشيباني.

أما أبو حنيفة فهو الإمام المقدم في هذا المذهب والمسلك، وكانت وفاته عام خمسين ومائة، وهو من الفقهاء المحققين إلا أن بضاعته في الحديث قليلة رحمه الله.

تبعه صاحباه في كثير من أقواله، وخالفاه حتى أنهما اشتهرا وأصبح لهما قول يعدل بقوله، وقد يقول المذهب ما قالاه لا ما قاله أبو حنيفة وهما: أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم الأنصاري وكانت وفاته عام ثلاثة وثمانين ومائة.

وأبو عبد الله محمد بن حسن الشيباني وكانت وفاته سنة تسع وثمانين ومائة رضوان الله عليهم أجمعين.

فهذه العقيدة مستفادة من أقوال هؤلاء، وليست العقيدة مذهباً خاصاً يعمل به ويفرق الناس عليه، يعني: ليست كالمذاهب الفقهية العملية، إنما العقيدة قول لم تختلف الأمة في أصوله، وفي كثير من فروعه وتفاصيله فهم متفقون عليه.

ولذلك لا يقال: هذا في العقيدة حنفي أو هذا في العقيدة شافعي، فإن الشافعية والحنفية والحنابلة والمالكية وغيرهم من المذاهب الفقهية إنما هي مذاهب وأقوال في المسائل العملية، وأما مسائل الاعتقاد فإنها مبنية على الكتاب والسنة لا تفرق فيها.

ولا يعني هذا أنه لا خلاف بين أهل السنة في مسائل الاعتقاد بالكلية لا في الأصول ولا في الفروع، لكن الكلام على أن الخلاف محدود، وهو في الفروع لا في الأصول، ليس بين أهل السنة والجماعة خلاف في مسائل الاعتقاد، بخلاف مسائل العمل فإن فيها خلافاً بيناً واضحاً.

قال رحمه الله: [وما يعتقدون من أصول الدين] .

(ما يعتقدون) أي: ما يدينون به وما يعتقدونه في أصول الدين، و (أصول الدين) المراد به مسائل الاعتقاد، وهذا التقسيم ثابت منذ زمن بعيد، فقسم الدين إلى أصول وفروع، الأصول: هي ما يتعلق بالعقائد، والفروع: هي ما يتعلق بالأعمال، وإن كان هذا التقسيم غير مطرد؛ لأنه في الحقيقة يجعل ما هو أصل فرعاً، فمثلاً الصلاة أصل وذلك لقوله النبي صلى الله عليه وسلم: (العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر) .

وعلى هذا التقسيم هي من مسائل الفروع، وهذا لا شك أنه نزول برتبتها وهي عمود الدين، لكن هذا التقسيم جرى عليه العلماء، وليس المراد بتقسيم الأصول والفروع التقليل من شأن الفروع، إنما المراد هو تمييز ما يتعلق بالاعتقاد عما يتعلق بالعمل، فلما كان غالب ما يتعلق بالعمل هو من الفروع سمي جميع ما يتعلق بالعمل فروعاً، وإن كان في مسائل الاعتقاد فليس من الفروع، كمسألة: أيهما أفضل الملائكة أو البشر؟ فإن الإنسان لو مات ولم يكن له فيها اعتقاد دين ما ضره ولا نقصه، بل لا يزيد الإيمان ولا ينقص بمعرفة الراجح في مثل هذه المسألة، فالتقسيم إلى أصول وفروع إنما هو لأجل تمييز مسائل الاعتقاد عن مسائل العمل.

قال: [ويدينون به رب العالمين] .

(يدينون) أي: يتعبدون، أصلها من دان يدين، والمراد في ذلك ما في هذه العقيدة مما يتعبد الله جل وعلا بها، فقوله: (يدينون به رب العالمين) أي: يتعبدون بها لله جل وعلا، ومن هذا نفهم أن العقيدة ليست أقوالاً جامدة كما يقول بعض الناس، إنما هو عقد يتعبد العبد به الله جل وعلا، ويدين به ربه سبحانه وتعالى، ويتقرب إلى الله بهذا الاعتقاد، فالعقيدة مما يتقرب به إلى الله جل وعلا، بل هي من أجل ما يتقرب به إلى الله سبحانه؛ لأن العقيدة من أعمال القلوب، ومعلوم أن جنس أعمال القلوب أعظم عند الله عز وجل من جنس أعمال الجوارح، فكان العناية بالاعتقاد مما ينبغي لطالب العلم أن يهتم به تعبداً وعملاً.

<<  <  ج: ص:  >  >>