[شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم العظمى]
ثم قال رحمه الله: [والشفاعة التي ادخرها لهم حق كما روي في الأخبار] .
الشفاعة: تقدم تعريفها، وأصلها من الشفع، وهو جعل الفرد زوجاً، هذا أصلها في اللغة، والمراد بها: التوسط في جلب الخير أو دفع الضر، وهي كذلك في الآخرة، فإن الشفاعة التي في الآخرة توسط ممن يمن الله عليه بالتوسط في جلب خير أو دفع ضر، لكنها تختلف عن شفاعة الدنيا؛ لأن شفاعة الآخرة لا تكون إلا بإذن من الرب جل وعلا، ولا تكون إلا برضاه عن المشفوع له، فلابد من هذين الشرطين: لابد من الإذن فلا يشفع أحد إلا بإذنه: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة:٢٥٥] .
ولابد من الرضا كما قال جل وعلا: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} [النجم:٢٦] .
فلابد من الإذن والرضا في كل موارد الشفاعة، وليس فقط في مورد واحد، يعني: في الشفاعة العظمى وما دونها، فإن الشفاعة العظمى لا تكون إلا بعد الاستئذان، ولذلك يذهب النبي صلى الله عليه وسلم إلى ربه فيسجد، ولا يبدأ بالشفاعة أولاً بل يستأذن، فإذا أذن له شفع صلى الله عليه وسلم، والشفاعة ثابتة للنبي صلى الله عليه وسلم، وهي ثابتة يوم القيامة وهي على درجات: - منها ما حصل الاتفاق بين الأمة على ثبوتها.
- ومنها ما جرى فيه الخلاف بين أهل السنة والجماعة وغيرهم من أهل البدع.
أما ما اتفقوا على ثبوته فهو ما أشار إليه في قوله: (والشفاعة التي ادخرها لهم حق كما روي في الأخبار) وهي الشفاعة العظمى التي يشفع فيها الرسول صلى الله عليه وسلم عند ربه أن يأتي جل وعلا لفصل القضاء بين الناس، وهذه شفاعة عظمى؛ لأن المنتفع بها هم الخلق جميعاً، ولأن الجميع يتخلون عنها فلا يكون لها إلا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ولذلك سميت عظمى؛ لعظيم الانتفاع بها، ولكون الأنبياء بل آدم وأولو العزم من الرسل يتخلون عنها، فكل منهم يعتذر، فإن الناس إذا اشتد بهم الكرب يقول بعضهم لبعض كما في الصحيحين وغيرهما من قولهم لبعضهم: (ألا ترون ما قد حل بكم وبلغ بكم، فيذهبون إلى آدم ويعدون عليه ما خصه الله به فيعتذر، ويذهبون إلى نوح فيعتذر، ويذهبون إلى إبراهيم فيعتذر، ويذهبون إلى موسى فيعتذر، ويذهبون إلى عيسى فيعتذر، ويذهبون إلى النبي صلى الله عليه وسلم) .
وهذه فائدة: الناس الذين يذهبون إلى الأنبياء هم أهل الإيمان فيما يظهر، وكما قال شيخنا عبد العزيز بن باز رحمه الله؛ لأنهم يعددون على الأنبياء ما لا يقر به الكفار، فيقولون لنوح مثلاً: أنت أول رسول أرسله الله إلى أهل الأرض، ويقولون لآدم: أنت أبو البشر خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وأسجد لك ملائكته، ويقولون لموسى: أنت رسول الله الذي كتب الله لك التوراة بيده وكلمك، وأيضاً يذكرون خصائص عيسى عليه السلام.
الشاهد: أنهم ذكروا لكل نبي ما لا يثبته له إلا أهل الإيمان، فهذا يدل على أن الناس المذكورين في الأحاديث هم أهل الإيمان الذين يصدقون بهذا وهو القريب.
أما أهل الكفر فإنهم لا شأن لهم بذلك فهم مشغولون بأنفسهم والتكفير فيما سينالهم من حيث ما ينالهم من سخط الله وعذابه، فإنهم يحشرون يوم القيامة صاغرين، ومن كان صاغراً ليس أهلاً للطلب، ولا أهلاً للسعي في نفع الخلق.
على كل حال: هذه الشفاعة يثبتها أهل السنة والجماعة وغيرهم من معتزلة وخوارج وغيرهم من الفرق، وهي خاصة بنبينا صلى الله عليه وسلم، أما باقي الشفاعات فإن أهل السنة والجماعة أثبتوها وغيرهم من أهل البدعة نفوها، إلا فيما يتعلق بالشفاعة في رفع الدرجات في الجنة، فإنهم يثبتونها، لكن الشفاعة في أهل الكبائر وفي قوم استحقوا النار أن لا يدخلوها، والشفاعة في إخراج من دخل النار أن يخرج منها، هذه كلها ينكرها المعتزلة والخوارج، ويحملون ما ورد في الشفاعة على الشفاعة العظمى، وعلى الشفاعة في رفع الدرجات في الجنة.
والله تعالى أعلم.
وبالله التوفيق.