[الشفاعة الخاصة بأهل الكبائر]
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال الإمام الطحاوي رحمه الله تعالى: [ثم يخرجهم منها برحمته وشفاعة الشافعين من أهل طاعته، ثم يبعثهم إلى جنته، وذلك بأن الله تعالى تولى أهل معرفته، ولم يجعلهم في الدارين كأهل نكرته، الذين خابوا من هدايته، ولم ينالوا ولايته، اللهم يا ولي الإسلام وأهله ثبتنا على الإسلام حتى نلقاك به] .
يقول المؤلف رحمه الله في تتمة ما تكلم به في مسائل الإيمان: (ثم يخرجهم منها برحمته) أي: يخرج أهل الكبائر؛ لأنه قال رحمه الله: (وأهل الكبائر من أمة محمد صلى الله عليه وسلم في النار لا يخلدون، إذا ماتوا وهم موحدون) يقول: (ثم يخرجهم منها) أي: من دخل النار من أهل القبلة من أمة محمد، والمقصود بالأمة هنا: أمة الإجابة، فمن دخل منهم النار بذنبه فإنه لا يخلد فيها كما تقدم، بل مآله إلى الجنة كما دلت على ذلك النصوص الكثيرة الدالة على عدم خلود أهل الإسلام في النار، (وأن الله يخرج من النار من كان في قلبه أدنى أدنى أدنى مثقال ذرة من إيمان) وهذا يدل على أنه لا يبقى في النار من أهل التوحيد أحد، بل قضى الله جل وعلا ألا يخلد فيها إلا أهل الكفر والشرك دون أهل المعصية من أهل التوحيد والإيمان.
(ثم يخرجهم منها) أي: من النار برحمته وشفاعة الشافعين، وذكر المؤلف رحمه الله من أسباب خروج أهل الكبائر من النار رحمته التي وسعت كل شيء، وقدم الرحمة مع أن الحديث الذي ذكر فيه الشفاعة أخر ذكرها؛ حيث يقول الرب جل وعلا بعد شفاعة من يشفع: (شفع النبيون، شفع الصالحون، شفعت الملائكة، ولم يبق إلا رحمة أرحم الراحمين) قدمها في الذكر؛ لأن الشفاعة برحمته، فالشفاعة إنما هي بإذنه ورضاه، بإذنه للشافع، ورضاه عن المشفوع، وذلك من رحمته سبحانه وتعالى بعباده.
فرحمته سابقة لاحقة، بل ما يصل الإنسان من الخير إنما هو برحمة الله عز وجل، فإن الرحمة دائرة على إيصال الخير ودفع الضر، وهو جل وعلا الرحمن الرحيم، وكلا الاسمين مشتق من صفة الرحمة التي هي إيصال النفع ودفع الضر، فإيصال الخير، ودفع الضر كله من رحمة الله جل وعلا، والشفاعة إيصال خيرٍ إلى المشفوع له، وهو خير للشافع؛ لأنه إكرام له، وإظهار لمنزلته، فهو رحمة من الله جل وعلا للشافع والمشفوع له.
يخرجهم سبحانه وتعالى برحمته وشفاعة الشافعين، والشفاعة هي التوسط في إيصال الخير ودفع الضر عن الغير، وقد تقدم الكلام عليها فيما مضى، وهي ثابتة عند أهل السنة والجماعة بجميع أنواعها التي دلت النصوص من الكتاب والسنة عليها، فالشفاعة العظمى ثابتة لأهل الموقف، وشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم في رفع الدرجات وفي دخول أهل الجنة، وفيمن استحق النار ألا يدخلها، وفيمن دخلها أن يخرج منها، كل هذا مما جاءت به النصوص، ودلت عليه دلالة واضحة، ولا يمتري فيها إلا أهل الأهواء.
يقول: [وشفاعة الشافعين من أهل طاعته] هذا بيان لمن هو مستحق لأن يشفع، فالشفاعة فضل وكرامة وهي لا تكون إلا لأهل السبق والطاعة من الملائكة والإنس وغيرهم ممن يقدر الله جل وعلا أنه يشفع.
قال رحمه الله: [ثم يبعثهم إلى جنته] البعث مضمن معنى الإثارة في اللغة، والمقصود يبعثهم إلى جنته أي: يدخلهم في جنته، فإنهم يخرجون من النار ويلقون في نهر الحياة، فينبتون في هذا النهر، ثم يمنّ الله جل وعلا عليهم بدخول الجنة، ومعلوم أن أحوال الآخرة مختلفة تماماً عن أحوال الدنيا؟! يقول: [وذلك بأن الله تعالى تولى أهل معرفته] ، [ذلك] المشار إليه ما منّ الله به على هذه الأمة من إخراج أهل الكبائر من النار، وعدم خلودهم فيها، فالمشار إليه هو عدم خلود أهل الكبائر في النار، والمؤلف رحمه الله استعمل هذا اللفظ، وإن كان قد يدل دلالة فاسدة عند بعض المنحرفين كغلاة المرجئة الذين يقولون: يكفي للتوحيد المعرفة، وأن الإيمان هو معرفة الرب، لكن المؤلف لا يريد هذا، إنما يقصد بأهل معرفته، أي: أهل طاعته كما تقدم في كلامه؛ لأنهم أهل كبائر ولم يفقدوا الإيمان، ولم يخرجوا عن دائرة الإسلام، وهو مستفاد من قول النبي صلى الله عليه وسلم: (تعرف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة) والتعرف على الله في الرخاء: هو أن يقوم الإنسان بما فرض الله عليه من العبادات الواجبة، وأن يسارع فيما شرع له وندب إليه من العبادات المستحبة.
[تولى أهل معرفته] والولاية تقتضي القرب والمحبة والنصرة، فإن الله جل وعلا تولى أهل الإيمان، وتوليه لهم يكون بمحبته لهم، وتقريبهم، ودفع ما يضرهم، ونصرهم في المواطن التي يحبون النصر فيها.
يقول: [ولم يجعلهم في الدارين] يعني: في دار الدنيا وفي دار الآخرة، [كأهل نكرته] يعني: كأهل الكفر به من أهل الجحود وغير ذلك مما يدخل به الإنسان في دائرة الكفر، ويخرج به عن دائرة الإسلام.
ولا شك أن الله جل وعلا فرق بين الفريقين، ولم يسوِ بين أهل الجنة وأهل النار لا في الدنيا ولا في الآخرة، بل أنكر التسوية بين الفريقين: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [القلم:٣٥-٣٦] ، {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [الجاثية:٢١] فنفى الله جل وعلا التسوية بين هذين الفريقين في الدنيا والآخرة، وهم مفترقون في أحكام الدنيا، ومفترقون أعظم الافتراق في أحكام الآخرة، فإن كان هناك شيء من اتفاق بين أهل الإسلام والإيمان وأهل الإجرام والكفر في الدنيا لكنهم في الحقيقة لا يستويان في الأحكام.
وفي الآخرة يكون الافتراق واضحاً بيّناً يدركه كل أحد، فإن أهل الإسلام يعطون من النور في الموقف ما يتميزون به عن أهل الكفر والنفاق، ثم إذا آل الأمر واستقر الفريقان عظم الافتراق، وتبين تبيناً لا لبس فيه ولا امتراء، فريق في الجنة وفريق في السعير، فلم يسو الله جل وعلا بين الفريقين، بل فرق بينهما كما دلت على ذلك النصوص.
يقول رحمه الله: [ولم يجعلهم] أي: يجعل أهل الإيمان ولو كانوا من أهل الكبائر، وأهل التقصير والمعصية، لم يجعلهم في الدارين كأهل نكرته، أي: أهل جحوده الذين خابوا، أي: لم يحصلوا هدايته، وخسروا سلوك هذا الصراط القويم الذي تحصل به للعبد الفضائل والمنن.
قال: [ولم ينالوا من ولايته] لم ينالوا أي: لم يدركوا من ولايته، والولاية المنفية هنا هي ولاية النصر والتقريب؛ لأن الولاية في القرآن نوعان: ولاية عامة لا يخرج منها أحد، وولاية خاصة.
الولاية العامة: هي التي يرزق الله جل وعلا بها كل أحد، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا أحد أصبر على أذى من الله جل وعلا؛ ينسبون له الولد، وهو يرزقهم ويعافيهم) فالرزق والمعافاة والإمداد بكل خير لأهل الكفر هذا من ولاية الله جل وعلا لهم، لكنها الولاية العامة، وليست هي الولاية التي نفاها المؤلف رحمه الله، الولاية التي نفاها المؤلف رحمه الله في هذا الموطن هي الولاية الخاصة التي يحصل بها نصر الله عز وجل لعبده، وتقريبه، وإنجاؤه من مواطن الهلكة، ومحبته سبحانه وتعالى، وهي المشار إليها في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها) إلى آخر الحديث، وفي الرواية الثانية المفسرة لهذا الحديث: (فبي يسمع، وبي يبصر، وبي يمشي، وبي يبطش) هذه هي الولاية التي تنتفي عن هؤلاء الكفرة.
ثم قال رحمه الله سائلاً الله جل وعلا: [اللهم يا ولي الإسلام وأهله] فهو جل وعلا نعم المولى ونعم النصير، وهو ولي الإسلام، وصاحبه، وناصره، ومظهره، ومحبه، وهو ولي أهل الإسلام، ناصرهم، ومحبهم، ومقربهم سبحانه وتعالى، فتوسل إليه بما هو سبب للنصر والنجاح.
[ثبتنا على الإسلام حتى نلقاك به] اللهم آمين، والثبات يكون باستقرار القدم على ما جاء في الكتاب والسنة، وبلزوم ما جعله النبي صلى الله عليه وسلم سبيلاً للنجاة، (تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبداً: كتاب الله) فكتاب الله جل وعلا من تمسك به هدي، والمؤلف رحمه الله قد ذكر قبل فقرات قريبة أكرم الخلق عند الله عز وجل فقال: [وأكرمهم عنده أطوعهم وأتبعهم للقرآن] ، فكلما كان الإنسان أتبع للقرآن كلما ثبتت قدمه على الإسلام، فالإسلام لا تثبت فيه القدم إلا بالعلم النافع والعمل الصالح، والعلم النافع والعمل الصالح هما اللذان جاء بهما النبي صلى الله عليه وسلم، قال الله جل وعلا: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} [التوبة:٣٣] الهدى: العلم النافع، ودين الحق: العمل الصالح، وبهما يحصل الثبات على الإسلام.
أسأل الله عز وجل أن يتوفانا وإياكم مسلمين، وأن يلحقنا بعباده الصالحين.