[إضافة القرآن إلى الله من باب إضافة الصفات وإضافته إلى الرسول من باب البلاغ]
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين، نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد: قال الإمام الطحاوي رحمه الله تعالى: [وإن القرآن كلام الله، منه بدا بلا كيفية قولاً، وأنزله على رسوله وحياً، وصدقه المؤمنون على ذلك حقاً، وأيقنوا أنه كلام الله تعالى بالحقيقة، ليس بمخلوق ككلام البرية، فمن سمعه فزعم أنه كلام البشر فقد كفر، وقد ذمه الله وعابه وأوعده بسقر؛ حيث قال تعالى: {سَأُصْلِيهِ سَقَرَ} [المدثر:٢٦] ، فلما أوعد الله بسقر لمن قال: {إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ} [المدثر:٢٥] ، علمنا وأيقنا أنه قول خالق البشر، ولا يشبه قول البشر] .
تقدم الكلام على أول ما يتعلق بهذا المقطع من كلام المؤلف رحمه الله في قوله: (وإن القران كلام الله) ، وقلنا: إن في هذا إثباتاً لصفة الكلام لله جل وعلا، والكلام صفة لله سبحانه وتعالى ذاتية فعلية دل عليها الكتاب والسنة والإجماع والعقل؛ فإن صفة الكلام من صفات الباري جل وعلا العظيمة، والتي يقتضي إنكارها القدح في الإيمان بالله عز وجل وبالرسول وبالكتب، فإن الإيمان بالرسالة من لوازمه: أن تؤمن بالمرسل، ومن لوازم الإيمان بالمرسل: أن تؤمن بالقول الذي أرسل به رسله، فالإخلال بهذا النوع من أنواع الصفات خلل في أنواع عديدة من العقائد وما يجب الإيمان به من أصول الإيمان.
وتقدم الكلام على أن الكلام ينقسم إلى قسمين: - كلام كوني.
- وكلام شرعي.
فالمؤلف رحمه الله في هذا المقطع يقرر كلام الله جل وعلا الشرعي؛ لأن القرآن من كلام الله الشرعي.
يقول رحمه الله: (وإن القرآن كلام الله) ، وعلى هذا أهل السنة والجماعة، ودل على ذلك الكتاب في قول الله جل وعلا: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} [التوبة:٦] ، والمراد بكلام الله في الآية: كلامه الذي تكلم به وهو القرآن؛ فإن الله جل وعلا تكلم بالقرآن وقت نزوله، وبلغه جبريل النبي صلى الله عليه وسلم، فهو كلام رب العالمين أضافه الله إلى نفسه إضافة الصفة إلى الموصوف، فليس في هذا مرية ولا شك ولا ريب عند أهل السنة والجماعة.
وأما إضافة القرآن إلى النبي صلى الله عليه وسلم وإضافته إلى جبريل في بعض الآيات؛ فإن هذا من باب إضافة الكلام إلى مبلغه، وليس إلى قائله، بل المتكلم به وقائله هو رب العالمين جل وعلا، ولذلك أضاف الله القرآن في كتابه إليه، وأضافه إلى جبريل، وأضافه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وإضافته إليه من باب إضافة الصفات، وإضافته إلى جبريل من باب البلاغ، فهو الرسول الملكي الذي أرسله الله عز وجل بالقرآن، وإضافته إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه الرسول البشري الذي جعله الله سبحانه وتعالى مبلغاً لرسالاته صلى الله عليه وسلم، فلا يلتبس عليك الأمر؛ فإن الكلام يضاف وينسب إلى من تكلم به أولاً لا إلى من قاله مبلغاً، ولذلك تجد القائل ممن يبلغ قول النبي صلى الله يقول: (قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم كذا وكذا) مع أنه لم يسمعه منه، وهذا الكلام ليس كلام المتكلم، أي: أنه ليس منسوباً إليه، وإنما هو مبلغ وناقل لما قاله رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فالكلام يضاف في لغة العرب إلى من تكلم به ابتداءً، وإن أضيف إلى من نقله فهو إضافة نقل وتبليغ لا إضافة ابتداء وكلام؛ ولذلك قال المؤلف رحمه الله: (منه بدا بلا كيفية قولاً) ، فـ (من) هنا بيانية لبيان ابتداء الغاية، أي: أن الكلام منه ابتدأ سبحانه وتعالى، فـ (من) لابتداء الغاية، والهاء هنا الضمير فيها يعود إلى الرب جل وعلا فلم يتكلم به غيره ولم يخلقه في غيره.
وهذه الكلمة منقولة عن السلف، ومرادهم بها كما ذكر شيخ الإسلام رحمه الله وغيره: أن الله سبحانه وتعالى لم يخلق هذا الكلام في غيره، كما تقول المعتزلة والجهمية إن الكلام كلام والقرآن كلام الله، لكنه كلام الله مخلوق، فللرد عليهم قال رحمه الله: (منه بدا) أي: هو المتكلم به، فالجهمية يقولون: القرآن كلام الله لكنه خلقه في غيره؛ فهو مخلوق من جملة خلق الله سبحانه وتعالى.
وقد رد عليهم سلف هذه الأمة، وحصل في هذه الصفة فتنة عظيمة لأهل السنة والجماعة أيام الإمام أحمد رحمه الله؛ حيث بلي الناس بمسألة القول بخلق القرآن، وامتحن فيها العلماء والقضاة وأهل العلم بل امتحن العامة بهذه المسألة، وثبت الله جل وعلا الإمام أحمد رحمه الله، وحفظ الله به كتابه وعقد السلف الصالح من الاندثار والضياع؛ حيث ثبت على قوله، وذَبَّ عما دل عليه الكتاب والسنة، ورد قول المبتدعة الجهمية الذين قالوا: إن القرآن كلام الله لكنه مخلوق كسائر المخلوقات، واستدلوا لذلك بقوله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الزمر:٦٢] ، والقرآن شيء؛ فهو داخل في هذا العموم، لكنه كذب؛ لأن (كل) في كل موضع تفيد العموم بحسب الموضع الذي وردت فيه، فإفادة (كل) للعموم ليست مطلقة مجردة عن السياق الذي وردت فيه.
ولذلك الريح التي أرسلها الله عز وجل على عاد لم تدمر المساكن، مع أن الله عز وجل قال: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ} [الأحقاف:٢٥] ، ولو كان المراد أنها تدمر كل شيء لما بقيت حتى الأرض؛ لأنها مرت على الأرض فبقيت الأرض، فدل ذلك على أن (كل) تفيد العموم بحسب السياق الذي ترد فيه وبحسب ما يقتضيه معنى الكلام، ولا تفيد في كل المواضع العموم المطلق الذي لا يخرج عنه شيء.
ثم إن القول بأن القرآن مخلوق استدلالاً بهذا: يقتضي أن نجعل جميع الصفات مخلوقة؛ لأن الرحمة شيء والعلم شيء والبصر شيء والسمع شيء والإرادة شيء، ومقتضى هذا: أن تكون جميع صفات الله عز وجل مخلوقة داخلة في قوله: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} ، مع أنه سبحانه وتعالى الخالق المدبر الذي لا يدخل شيء من صفاته في عموم قوله: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} ، فالرد على المعتزلة والجهمية في استدلالهم بهذه الآية على أن القرآن مخلوق واضح وبيّن، يدركه كل من فقه اللسان، وعرف موارد الكلام، وفهم وعلم أن إفادة العموم من هذا الفظ ليست واضحة في إدخال كلام الله عز وجل.
المراد: أن القرآن كلام الله حقيقة، والإضافة هنا إضافة أوصاف لا إضافة أعيان، والمعتزلة والجهمية عندهم أن الإضافة إضافة عين؛ لأن الكلام مخلوق فإضافته إلى الله كإضافة بيت الله وناقة الله، وما أشبه ذلك من الإضافات التشريفية التي أضافها الله سبحانه وتعالى إلى نفسه للتشريف وبيان المكانة والمنزلة، فناقة الله الإضافة فيها ليست إضافة صفات؛ لأن الناقة عين قائمة بذاتها، فإضافتها إلى الله عز وجل إضافة تشريف، كذلك بيت الله الإضافة فيها إضافة تشريف؛ لأنه عين قائمة، وكذلك عبد الله الإضافة إضافة تشريف؛ لأن العبد عين قائمة، لكن ما لا يقوم بذاته من الإضافات كالكلام والرحمة والسمع والبصر هذه ليست أعياناً قائمة بذاتها، إنما تقوم بغيرها، فإضافتها إلى الله جل وعلا من باب إضافة الصفات.
فالكلام ليس شيئاً يقوم بذاته حتى نقول: إن الإضافة إضافة خلق، بل هذا تلبيس وتشبيه يرده أصحاب العقول النيرة والأفهام البينة.